أبحاث

سيناريوهات الحلّ في سورية في موازين 38 كاتب ومحلّل سوري

سيناريوهات الحلّ في سورية في موازين كتّاب ومحلّلين سوريّين (3/1)

حسام ميرو: الحامل السوري الديمقراطي

د. سمير التقي: في سيناريوهات الحلّ السوريّ

إبراهيم العلوش: سياسة تجفيف المستنقعات

عقاب يحيى: الخيارات البديلة

د. مضر الدبس: مقاربة المسألة السوريّة ومآلاتها المستقبليّة

أسامة العاشور: الواقع والتوقّع

حسن النيفي: القضيّة السوريّة في ضوء المآلات الراهنة

غسان المفلح: لا حلّ في الأفق

مهند الكاطع: العمليّة السياسيّة لم تبدأ حتّى نعلن فشلها

بهنان يامين: سورية الثورة الى أين في نهاية عامها العاشر؟

فراس علاوي: السيناريو العراقي الأقرب إلى الحلّ في سورية

بعد اندلاع الثورة السوريّة -في آذار/ مارس 2011- التي طالبت برحيل بشار الأسد وأركان نظامه الاستبدادي الطائفي الفاسد، دفع أحرار سورية وحرائرها -على مدار السنوات العشر الماضية- أثمانًا باهظة على درب الجلجلة نحو الحرّيّة والديمقراطية وبناء دولة القانون المواطنة.

أثمانٌ وثّقتها (الشبكة السوريّة لحقوق الإنسان) في تقريرها الصادر بمناسبة الذكرى العاشرة لانطلاق الثورة الذي وثق مقتل 227413 مدنيًا بينهم 14506 بسبب التعذيب، واعتقال/ إخفاء قسري 149361 شخصًا، وتشريد نحو 13 مليون سوري، وأكثر من 12 مليون يكابدون المشقات لتأمين قوتهم اليومي، وعيش أكثر من مليوني إنسان في فقر مدقع، وغير ذلك من المآسي والخسائر البشرية والاقتصادية ودمار نسبة كبيرة من العمران والبنيّة التحتيّة التي خلفها الإرهاب الأسدي – الروسي – الإيراني.

ومع تزايد التعقيدات في الملفّ السوريّ في ظلّ غياب الحلّ السياسي وتواصل الصراع العسكري على امتداد الجغرافيا السوريّة الممزّقة، وبعد أن صارت البلاد مسرحًا لموسكو لاستعراض القوّة طمعًا في استعادة دورها الدولي بوصفها قطبًا عالميًا، واستخدام الأرض السوريّة وما عليها حقل تجارب لتحسين أداء أسلحتها الفتاكة وجعلها معرضًا دائمًا لبيع أسلحتها الجديدة، فضلًا عن انسداد أفق الحلّ السياسي وتكاثر الدول المتدخلة في الشأن الداخلي السوريّ، إذ يقبع رأس النظام تحت الحماية الروسيّة والإيرانيّة، وتتبع المعارضة السوريّة، بل المعارضات لحكومات إقليميّة دوليّة، ما يؤكّد عجزها عن اتّخاذ قرار سياسي موحّد بلا وصاية خارجيّة، بالتزامن مع عدم تحقيق اللجنة الدستوريّة أي تقدّم ملموس على الأرض، وإبقاء القرار الأممي 2254، القاضي بتشكيل هيئة حكم انتقاليّة في سورية (صدر عن مجلس الأمن الدولي في 2015)، مجمّدًا بفعل التدخلات الخارجيّة، والتلاعب الأسدي الروسي في المحافل الدوليّة، وكذلك انتشار أنباء عن تشكيل (مجلس عسكري انتقالي) مشترك بين النظام والمعارضة بوصفه حلًا بديلًا، وأمام غياب خريطة طريق وبرنامج تنفيذي وآليّات واضحة، وضمانات دوليّة ملزمة للوصول إلى حلّ يقبل به الشعب السوري الثائر، تفشّت في صفوف السوريّين حالةً من اليأس الشعبي العامّ من إمكانية إصلاح النظام، والتخلّص من الاستبداد والفساد عن طريق التغيير السلمي الديمقراطي المتدرّج، مع هذا كله يفتح مركز حرمون للدراسات المعاصرة، مع دخول الثورة عامها الحادي عشر، ملفًا خاصًّا حول سيناريوهات الحلّ في سورية، في ظلّ فشل العمليّة السياسيّة والتحضير للانتخابات الرئاسيّة التي يحضر لها الروس ورأس النظام في دمشق، فكان أن استضفنا نخبة من الكتّاب والمحلّلين السياسيّين السوريّين المنتشرين في أصقاع الأرض بعد أن شتّتهم الإرهاب الأسدي المتحالف مع الاستبداد الديني، وذلك للوقوف على طروحاتهم ورؤاهم للحلّ الذي ينتظره السوريّون الذين ذاقوا مرارة الحرب ووحشيّة نظام البراميل وحلفائه، طلبًا للخلاص من آل الأسد، ونيل الحرّيّة والكرامة، ونقل بلدهم من بلد يحكمه الاستبداد إلى بلد ديمقراطي تعدّدي.

حسام ميرو: الحامل السوري الديمقراطي

في ضوء معطيات مركّبة ومعقّدة مثل أوضاع الوطن السوريّ، يبدو سؤال الحلّ الإستراتيجي للأزمة السوريّة سؤالًا إشكاليًا من جميع جوانبه، وإذا كان مفهومًا من الصيغة العامّة للسؤال أنّ المقصود هو الحلّ السياسي لهذه الأزمة، إلّا أنّ مفهوم الحلّ السياسي في الحالة السوريّة يحتاج إلى تفكيك، فنحن بداية لسنا أمام أزمة فشل حكومة محددة، أو فشل ائتلاف حاكم، كما في الدول الديمقراطيّة، بل أمام أزمة وجودية عصفت بالكيان السوريّ نفسه، وهي تطرح منذ سنوات أسئلة كثيرة حول مستقبل هذا الكيان كما عرفه السوريّون بعد الاستقلال عن الانتداب الفرنسي في 1946.

منذ صدور بيان (جنيف1) في 30 حزيران/ يونيو 2012، ذهبت المسألة السوريّة (من المفيد لنا في إطار البحث عن حلّ إستراتيجي التمسّك بمفهوم المسألة السوريّة) نحو التدويل، خصوصًا مع التفسيرين المتضاربين لنصّ البيان من جهة واشنطن وموسكو، وهو الأمر الذي سيترك تداعياته على مجمل مسار التدخل الخارجي في المسألة الوطنيّة، بكونها صراعًا لم يعد محليًا خالصًا، بل إقليميًا ودوليًا.

البحث عن حلّ سياسي مرّ بمراحل عدة، لكنّها بالمجمل اختزلت، بشكلٍ أو بآخر، في مسألة السلطة، في الوقت الذي كان فيه الواقع السوريّ يتحرك بسيولة كبيرة، ويطرح مسائله الكثيرة، ونحن اليوم، بعد عقد كامل من الحدث السوريّ التاريخي نجد أنفسنا أمام أسئلة تتعلق بالدولة، ونظام الحكم، والهويّة الوطنيّة، ودور الجيش والأمن، ومنزلة الجماعات والأفراد في الدستور، إضافة إلى كلّ هذه الأسئلة، ثمّة واقع يتضمّن ملفّات وطنيّة وإنسانيّة واقتصاديّة، لا يمكن القفز من فوقها، فأي حلّ سياسي مقبل لن يكون ناجعًا ومستدامًا من دون أخذ الأسئلة والملفّات الرئيسية الكبرى بالحسبان.

على سبيل المثال: كيف يمكن لنا أن نتصوّر حلًّا سياسيًّا لا يأخذ بالحسبان واقع النقد السوريّ، وعدم وجود احتياطات نقدية، وحالة التضخم الاقتصادي والمالي الناجمة عن عقد كامل من الصراع؟

ملفّ اللاجئين والنازحين من الملفّات التي تحتاج إلى تصوّر إستراتيجي متكامل، إذ لا يمكن تصوّر أي حلّ سياسي لا يفتح الباب أمام عودة اللاجئين والنازحين، وتكلفة هذا الملفّ، من النواحي القانونية والمالية واللوجستية، تحتاج إلى تمويلات دوليّة كبيرة، وضمانات من جميع الأطراف، وليس واضحًا بعد إذا كان بالإمكان، ضمن أي حلّ، ومهما كان نوعه، أن تُؤَمَّن تلك التمويلات.

 بالنظر إلى تجارب كثيرة، فإنّ الحلول السياسيّة في حال توافرها قد لا تكون حلولًا تقدّميّة، بمعنى أنّها قد تكون مقدّمة لتثبيت وقائع التشظي الجغرافي والديموغرافي، بكلّ حمولاته ما دون الوطنيّة، وتلك الحلول هي من قبيل (سلام ما بعده سلام) على الطريقتين اللبنانية والعراقية، لكن مفهوم الحلّ الإستراتيجي ينبغي أن يقوم على تأمين تنمية مستدامة لجميع مقوّمات المجتمع والدولة، والمقصود الدولة الوطنيّة الديمقراطيّة.

إنّ فشل المسارات السياسيّة والعسكريّة من آستانا وسوتشي واللجنة الدستوريّة، وعمل روسيا على إعادة تعويم النظام، كلّها تؤكّد أنّنا ما زلنا بعيدين عن إنتاج حلّ سياسي إستراتيجي، فحلول كهذه لا بدّ لها من حوامل موضوعية وذاتية. فمن الجانب الموضوعي، ما تزال القوى الإقليميّة والدوليّة المنخرطة في الصراع السوريّ -وعلى الرغم من وجود القرار الأممي 2234- بعيدة عن التوصل إلى تفاهمات حول الحلّ السياسي، فأجندة هذه الدول، بما فيها الدول الضامنة الثلاث، روسيا، وتركيا، وإيران، غير متطابقة، بل متناقضة إلى حدٍّ بعيد.

الحوامل السوريّة في اللحظة الراهنة ضعيفة، فـ(المعارضة السوريّة) بصيغتها الرسميّة، أصبحت تعبيرات عن إرادات الدول الداعمة لها، من حيث الشرعيّة والوجود، وبالعودة إلى ظروف تشكيلها والقوى المنضوية فيها وتمويلها وممارساتها، فهي أقلّ من ناحية الممكنات الموضوعية من أن تكون فاعلة في إنتاج حلّ سياسي إستراتيجي، أمّا المعارضات الديمقراطيّة، من أحزاب وتيارات وحتى تكتلات، فهي في أوضاع لا تسمح لها، أن تكون مؤثّرة في إنتاج حلّ من هذا النوع.

الأمل في إنضاج حلّ سياسي إستراتيجي يتوقف، بشكلٍ من الأشكال، على إنضاج حامل سوريّ ديمقراطي، وهو ما يتطلب من هذه القوى إعادة بناء نفسها من كلّ النواحي للعمل وفق برامج إستراتيجيّة، ليس من أجل خوض انتخابات أو الدخول في مؤسّسات تفاوضية، بل من أجل بناء تيار ديمقراطي شعبي، يستعيد في أثناء عمله وحركته أهمّية الحامل السوريّ الوطني في إنتاج الحلّ السياسي، بوصفه عملية انتقال من الجمهورية الثانية التي انتهت في 2011 إلى الجمهورية الثالثة التي طال انتظارها.

د. سمير التقي: في سيناريوهات الحلّ السوريّ

في بضع مئات من الكلمات، أنت تكتب كلامًا عموميًا يختزل الحقيقة بالضرورة، ويصبح الكلام أحيانًا فجًا وفاحشًا.

طالما كانت سورية الجغرافيا جسرًا، أفقر من أن تحتل وأهمّ من أن تترك لشأنها في إقليم يتداعى بحدِّ ذاته. بل غالبًا ما كانت تابعة، لا خاضعة، لحضارات غنية.

حين كانت تضعف بلاد الشام كانت تنقسم بين غساسنة ومناذرة، وحين تقوى تحاول أن تكون عاصمة للعواصم، وكان أهل الشام كقوم سياسي من طراز فريد، يجترحون نهضة تعيد بناء ثقافة الإقليم وسياسته، بل العالم. فكانت الديانات وكانت الحركات القومية. بذلك أصبحت بلادنا أس الأيديولوجيا.

سورية، في أصل تكونها الجغرافي – الاقتصادي، هي وحدة واحدة بطبيعتها. لكن لكونها جسر عبور، قسمها أقوامها بحسب العصبيات.

الأصل في الدولة أن تكون أمة لذاتها، وبالفعل نشأت على هذه الجغرافيا السوريّة بعد الاستقلال محاولة لتشكيل دولة/ أمة سوريّة من بشر طامحين في الحياة المشتركة. وبدل بناء سورية الدولة/ الأمة الناشئة، سرعان ما قفز الطامحون لتحميل مشروعنا الوطني عبء العالم بأسره. وكما في كلّ مرّة، تتجاوز سورية ذاتها لتحمل أحمال الإقليم كله، كانت سورية تنكسر. فما بين حلم (وحدة العرب) من الخليج إلى المحيط وإحياء (خلافة المسلمين)، وتحرير (المغتصبات)، تفكّكت سورية وتذرت.

في التاريخ؛ نادرًا ما استتب نظام عالمي. والنظام الراهن مؤقت وطارئ يتداعى ويعاد تشكيله بعد سبعين عامًا، وتتداعى معه كلّ الحقوق. حيث صارت سورية ثقبًا أسود يشكّل أضعف حلقاته. انهارت مقوّمات اتّفاقات (يالطا)، وقبلها (فرساي) و(سايكس – بيكو) و(سيفر). في حين ما تزال المسألة الشرقية الناجمة عن الانهيار المحتوم للإمبراطورية العثمانية حيّة، وانهارت معها أربع إمبراطوريات أخرى بعد الحرب العالميّة الأولى.

السوريّون من جهتهم يناشدون ويطالبون ويدينون ولا من مجيب في نظام عالمي منكفئ، تتراجع فيه كلّ الحقوق. على جانب آخر وفي غفلة من السوريّين، جرى في سوتشي إقرار جملة مبادئ لـ(سايكس – بيكو) الجديد يتضمّن تقسيم سورية. أشعر برغبة جامحة في أن أهز السوريّين فردًا فردًا بغض النظر عن ولاءاتهم لأقول: إنّ (سايكس – بيكو) الجديد قد طبق، ولسذاجة كثيرين ما يزالون يشترون وعود وحدة الأراضي السوريّة. ليس تقسيم سورية محتمًا، وبالمقابل لن يأتي يوم يتدخل فيه أحد في هذا الكون لتوحيدنا. ولا أحد يهتم. وفي أحسن الأحوال قد يقررون تفويض عسكري أو رجل دين ليجمعنا على الاستبداد. أهمّ ما في الأمر أنّه في إطار صراع البقاء لم يعد لدى كثير من السوريّين سوى تأجير بنادقهم للمحتلّين، فيصفق (وطن)” سوريّ لطائرات تقصف هنا ويشجب الطائرات ذاتها حين تقصف هناك.

لأجل كلّ ذلك أقول: إذا استبعدنا حربًا إقليميّة تعاقب الأشرار وتنصر الأخيار، وإن استبعدنا انسحاب المستعمِرين المختلفين، وإذا فهمنا انهيار منظومة الحقوق؛ ندرك أنّه غالبًا ما تذهب الحقوق حتّى لو بقي المطالبون، أقول ليس لنا خيار إلّا المصالحة، أمّا الإيمانات بالحتميات التاريخية ونظريات المؤامرة فمثواها الجنة وليس في سورية الآن. من دروس التاريخ ندرك أنّ ستالين انتصر في الحرب وخسر كلّ روسيا في السلام، وكان العكس في ألمانيا واليابان. وإذ تنتهي الحروب الأهلية بجلوس الملوثة أيديهم لإنتاج حلّ ما، يحسمه عاملان: ميزان القوى، وأفق استدامة الحلّ. انتصر النظام عسكريًّا ثلاثة أرباع انتصار، وهزمت المعارضة عسكريًّا ثلاثة أرباع هزيمة. لكن أيًا منها لم ينتصر ولا ربع انتصار في الحوكمة واستدامة السلام.أمّا عن الديمقراطيّة فلقد وعاها العالم منذ ألفي عام، وعلى الرغم من التبشير بها لم تبدأ في التحقق إلّا حين صارت ضرورية للتطور البشري. وهي لم تصبح كذلك إلّا في نموذج الدولة الليبرالي حيث أقلّ ما يمكن من الدولة وأكثر ما يمكن من الحرّيّة. أمّا مشكلة الهويّات العرقية – الطائفية، فلقد حلّها التاريخ إمّا بالاستبداد والدم، أو بالديمقراطيّة. السلم الأهلي لا يتحقّق من دون اعتراف ومشاركة طوعية تامّة للهويّات. لا حلّ مع الديمقراطيّة إلّا بالوحدة الطوعية وأي قسر أو قمع للهويّات يعني عودة الاستبداد بأسوأ أشكاله.

في هذه الظروف، وبغض النظر عن مظالمها، الأكثرية هي صاحبة المصلحة يجب أن تضحي من أجل الحفاظ وحدة البلاد. ليس ثمّة حلّ سياسي دولي في سورية. لا أحد يهتم بعد أن أصبحنا مصرفًا لكلّ نتن الصراعات الإقليميّة. أمّا بشار الأسد فلقد صار غير ذي أهمية، لو غاب لن تتوقف الحرب وإن بقي فهو غير قادر على شيء، ولكلّ هذه الأسباب أرى سيناريوهات الحلّ في سورية احتمالًا بين ثلاث: أولها، سيناريو أن تستمر الأمور على عواهنها. ويستقر مزيد من عفن أمراء الحرب. والسيناريو الثاني أن تحتاج إحدى دول الإقليم (بما في ذلك روسيا) إلى إغلاق الجرح السوريّ، فتجلب بسطارًا ما لإدارة حلقة جديدة من عذابات الحرب الأهلية وخرابها لتنفجر في كلّ حين. وأمّا الثالث، فهو المصالحة. الثورات، نمط خاصّ من الحروب الأهلية يفترض فيها أصلًا الانتصار الصفري، فإن لم يتحقّق تصبح المصالحة في الحرب الأهلية توافقية بين العسكر الملطخة أيديهم بالدم. لم يقدم التاريخ أي مخرج آخر. بل إنّ من الوهم أن نتصوّر أن تقوم أي قوّة إقليميّة بتسهيل المصالحة. كلّهم سعداء بخمود النار واستمرار الخراب في حين غاب صوت السوريّين.

في ظلّ الطموح الديمقراطي، لن تحدث المصالحة إلّا طوعيًا ضمن شروط بين كلّ المكوّنات الإثنو- طائفية للشعب السوريّ وخارج منطق الحرب الأهلية ومنطق الفوز والخسارة. أمّا الحلول فلن تكون عادلة، ومنصفة، بل تستند إلى ضرورة طمأنة الجميع في ظلّ شرخ عميق.

المصالحة مجتمعية طوعية أولًا بين مكوّنات كلّ الشعب السوريّ على أساس الاعتراف المتبادل بالمصالح وإدراك صعوبة بناء الثقة على مدى عقود. الحديث عن الدستور وسوى ذلك محض مضغ للهواء، بل إنّ جل ما يمكن إنجازه الآن هو وثيقة ما فوق دستوريّة بمنزلة عقد اجتماعي يصوغها المتحاربون. وإلّا فالخراب.

إبراهيم العلوش: سياسة تجفيف المستنقعات

كلّ الحروب الداخليّة في المنطقة جرى امتصاصها بسياسة التجفيف طويل الأمد مثل لبنان والعراق والسودان. وسورية لن تكون استثناءً، ودورنا نحن السوريّين، خلال مسيرة التجفيف هذه، هو الذي سيحدّد ما نكسبه من نقاط وحلول خلال المرحلة القادمة.

من الواضح أنّ الجهات الدوليّة تجفف المستنقع السوريّ، وهي تنتزع انتصارات النظام العسكريّة بتطبيق قانون (قيصر)، وتُفاجئ الشبيحة وهم ينزلون من دباباتهم ليجدوا أنفسهم وقد كسبوا بلدًا جائعًا ومدمّرًا ومحاصرًا بعد انهيار البنية التحتية وهرب الكفاءات، إضافة إلى انتزاع القوى الأخرى سيادة القرار من نظام الأسد، فالروس والإيرانيون والأميركيون والأتراك يهيمنون على قرارات إدارة البلاد، ولم يعد أمام المنتصرين من شبيحة الأسد إلّا أنّ يختاروا بين التبعية للروس أو للإيرانيين، وهم المحتلّون الذين اختارهم الأسد في مقابل المحتلّين الآخرين.

تعيد الجهات الأوروبيّة تأهيل إدلب وتعمل على انتزاع مخالب التنظيمات المتطرّفة وأنيابها هناك، ويدير الأميركيون الجزيرة والفرات بتفويض للقوّات الكرديّة التي تتصدّر المشهد، بينما تدير تركيا المناطق التي تقع تحت سيطرتها من اعزاز حتّى رأس العين، وروسيا تركض لاهثة من درعا إلى الحسكة من أجل الإمساك بملفّات تمكّنها من إعادة تأهيل نفسها بديلًا من إيران.

لقد انتهت الحرب كما صرح النظام ورجالاته وعادت السياسة إلى احتلال الاهتمام الأكبر في الملفّ السوريّ، وانحسر دور الميليشيات الطائفية التي ساعدت النظام في أعمال التدمير والتخريب وبدأت تنخر جسد النظام نفسه، وحان دور السياسة واللعب الدولي، فهل تستطيع الجبهة الوطنيّة التقدّميّة احتلال مكانها في القرارات الداخليّة؟ وهل يستطيع حزب البعث إعادة نفسه إلى الحياة السياسيّة بعدما كان صامتًا أمام أعمال التخريب والتعذيب والتهجير الطائفي؟ وهل البنية السياسيّة والثقافية للنظام قادرة على القيام بدور الدفاع السياسي عن النظام بعدما أصبحت كسيحة في مقابل الشبيحة، وفي مقابل الاحتلال الإيراني وميلشياته الطائفية، وفي مقابل الهيمنة المتعاظمة لمستعمرة (حميميم) على القرارات السوريّة؟

استيقظت النخب المساندة لنظام الأسد عارية وغير قادرة على فعل شيء، ولم تعد قادرة على إصدار مواقف مقنعة للناس الجائعين ولا لأهالي المعتقلين ولا لضحايا الحرب وأيتامها، وليست قادرة على تبرير الصلاحيات المطلقة للإيرانيين والروس، فقد باع العسكر والمخابرات البلاد بأبخس الأثمان.

من هنا، تكون أهمّية دور السوريّين في الحلول القادمة، فمليون سوريّ في أوروبا وملايين أخرى في تركيا وفي لبنان يجب أن تتحرك اليوم مدافعة عن نفسها وتستطيع أن تتظاهر أمام السفارات الروسيّة والإيرانيّة وأن تطالب بالمعتقلين وتطالب بمحاكمة المجرمين من نظام الأسد، وما محاكمة (كوبلنز) الألمانية إلّا خطوة أولى ضمن خطوات كثيرة واعدة ضدّ نظام الأسد الذي يحرص السوريّون جميعًا على عدم إفلات مسؤوليه من العقاب.

البدائل المطروحة لنا نحن السوريّين للحلّ هي الاستفادة من الزمن المخصّص للتجفيف، والاستفادة من الضغوطات الدوليّة بمضاعفتها عبر صنع رأي عامّ ضاغط على المحتلّين، يطيل تخبطهم، ويجعل إعادة تأهيل نظام الأسد شبه مستحيلة، وإن حصل فيجب أن نجعلهم يدفعون ثمنًا غاليًا مقابله، بجعل المطالبات السوريّة تتدفق بشكلٍ دائم عبر التظاهرات والميديا والمؤتمرات واللجوء إلى المنظمات الإنسانيّة العالميّة التي لها باع طويل في مساعدة السوريّين على توثيق جرائم النظام.

نستطيع الانتصار على النظام بالجهد الإنساني والسياسي في مرحلة التجفيف المقبلة بسبب ضعف مكوّناته السياسيّة، ونستطيع تقليل عدد الناجين من العقاب ضمن صفوف نخبة الأسد، ونستطيع إحباط المناورات التي يتلاعب بها، مثل محاولة النظام الفاشلة في ترشيح أسماء الأسد بدلًا من بشار متّخذًا من سياسة بوتين في تبادل الرئاسة مع رئيس وزرائه، مثالًا يحتذى في التلاعب بالناس وبالقوانين التي مارسها في روسيا. لقد فاز أمراء الحرب في لبنان وكرّس انتصارهم استيلاءهم على اتّفاق الطائف، وها هم يقودون بلدهم اليوم إلى حرب أهلية جديدة، ويجب ألّا نسمح بفوز أمراء الحرب في سورية بالاستيلاء على مباحثات جنيف أو غيرها، على الأقلّ كي لا يقودوا الأجيال القادمة إلى حروب أهلية ستطال الجميع.

عقاب يحيى: الخيارات البديلة

نحن على أبواب الذكرى العاشرة للثورة وما تزال الأزمة السوريّة موصدة الطرق في وجه أي حلّ يحقّق الحدّ الأدنى لطموحات الشعب السوريّ ومطالبه بعد أن قدّم التضحيات الغالية ثمنًا للحرّيّة وإقامة نظام تعدّدي، مدني، ديمقراطي بديل لنظام الاستبداد والفئوية والفساد.

ـ الأسباب كثيرة يتداخل فيها الذاتي بالعامّ. الداخلي بالخارجي، ويظهر الدور الخارجي ثقيل الوطأة وكبير الأثر إن كان عبر تدويل (المسالة السوريّة)، أو من خلال الاحتلالات الأجنبية، أو عدم وجود اتّفاق، أو قرار دولي يلزم النظام بالانصياع لقرارات الشرعيّة الدوليّة، وبخاصّة دور الولايات المتّحدة الأميركيّة وقرارها الذي ما يزال بعيدًا عن الحسم، أو الاقتناع بوجوب إنهاء النزيف السوريّ بإيجاد حلّ سياسي يستجيب لإرادة معظم السوريّين من جهة ولمجموعة القرارات المتّخذة في الهيئة الدوليّة بدءًا من بيان (جنيف 1) ووقوفًا عند القرار الأممي 2254.

الأسباب المتداخلة كثيرة سنحاول إيجازها بما يأتي:

1-عند انطلاق ثورات الربيع العربي جاءت التدخلات الخارجيّة عاملًا حاسمًا في إنهاء عدد من الأنظمة الاستبدادية، وكانت الحالة الليبية نموذجًا صارخًا لها، دفعت السوريّين إلى الرهان على مثلها، وتجلّى ذلك في خطوات المجلس الوطني ورهاناته، ما كان له كثير التداعيات، وأهمّها وضع ذلك الرهان بديلًا من الحاضنة الشعبيّة وبناء علاقات طبيعية معها وللعامل الذاتي، فكانت الفجوة التي اتّسعت مع انتشار العَسكرة، وتحوّلاتها السريعة التي أنتجت ظواهر سلبية منها التهميش السياسي، والإسلامويّة المتنوّعة وعلى رأسها بروز تنظيمات متشدّدة كـ(القاعدة) و(داعش) وتلوينات مختلفة دخلت على الخط وفتحت الأبواب واسعة لشتّى التدخلات الإقليميّة والخارجيّة التي كان من أهمّ نتائجها: سحب الملفّ السوريّ من أيدي أصحابه ووضعه في يد القوى المموّلة والفاعلة، ومنع توحيد تلك الفصائل التي انتشرت كالفطر وإتباعها للقيادة السياسيّة، وإنشاء ما يعرف بغرفتي (الموك) و(المول) اللتان تحكّمتا في القرار والدور.

2-الجميع يعرف طبيعة النظام الأقلوية، العنفية، واعتماده نهج الحلّ الأمني-العسكري، وهو ما مارسه منذ الأيام الأولى للثورة حينما كانت سلمية، وبما يعني أنّه لن يقبل بأي حلّ سياسي ولو كان خطوات صغيرة ويراه بداية النهاية له، وأنّه لن يوافق على القرارات الدوليّة إلّا مجبورًا ومنصاعًا وهو الأمر الذي لم يحدث.

3-على العكس من ذلك، حين كانت فصائل الجيش السوريّ الحرّ تسيطر على أكثر من 70% من الأرض السوريّة، وحين كان النظام على شفير هاوية الانهيار في نهاية 2012 و2013 كان التدخل الإيراني حاسمًا لمنع السقوط، ثمّ الاحتلال الروسي الذي لا بدّ أنّه جاء بضوء أخضر أميركي وغيّر موازين القوى بشكلٍ ساحق على الأرض لمصلحة النظام، وفرض وقائع ما يعرف بمناطق خفض التصعيد التي التهمها وأعاد معظمها إلى النظام وفرض ما يعرف بالمصالحات وإنهاء وجود عدد من الفصائل المسلحة.

4-بعد تلك التطورات توضّح الموقف الدولي المعلن بأنّ الحلّ العسكري ممنوع، وأنّ صيغة (لا غالب ولا مغلوب) هي المتّفق عليها، وأنّه لا سبيل سوى الحلّ السياسي.

-لقد وافق الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، وبعد تباينات كبيرة داخله، على الدخول في مفاوضات جنيف برعاية الأمم المتّحدة وظهر جلّيًا رفض النظام لأي استجابة، وتطبيق ما أعلنه وزير خارجيته بإغراق المعارضة بالتفاصيل، واستهلاك الوقت من دون تحقيق أي خطوة إيجابية.

-من جهة أخرى حدثت دحرجات متتالية على صعيد القرارات الدوليّة ومضمون بيان (جنيف 1). فقد مورست ضغوط متعدّدة تحت شعار (توسيع تمثيل المعارضة) لمنع بقاء الائتلاف الطرف الرئيس في المعارضة لتمسّكه الشديد بثوابت الثورة، فكان مؤتمر (رياض 1)، ثمّ (رياض 2) الذي أدخل منصّات عدة كالقاهرة وموسكو، وأضعف تمثيل الائتلاف، وكان الأهمّ من ذلك تلك الزحزحة لجوهر بيان (جنيف 1) القاضي بتشكيل هيئة الحكم الانتقالي بصلاحيات تنفيذية كاملة، وتحديد مرحلة العمليّة الانتقاليّة التي تكون فيها القضايا الدستوريّة والانتخابات ترجمة ونتيجة لها لا مقدّمة.

-المبعوث الدولي الخاصّ إلى سورية السابق، ستيفان ديمستورا، ولتحريك وضع المفاوضات، وربّما لاستمراره في مهمّته خرج بما يعرف بالسلال الأربع، ثمّ اختصرت بسلّة واحدة هي اللجنة الدستوريّة ببصمة روسيّة واضحة، بينما غاب الأهمّ الخاصّ المتعلّق بهيئة الحكم الانتقالي والاستعاضة عنها بتصريحات غير رسميّة، أو غير معتمدة عن (البيئة الآمنة).

-المفاوضات في اللجنة الدستوريّة، وبعد عام من المماحكات والصراعات لتشكيلها -وهي للمناسبة من مخرجات (مؤتمر سوتشي)- استمرّت أربع جولات كانت نتيجتها عبثية تدور في الفراغ واستهلاك الوقت نتيجة مواقف النظام الرافضة لأي تجاوب مع جدول الأعمال، والدخول في صلب الموضوع. ما يطرح سؤالًا مهمًّا عن الجدوى ومبرر الاستمرار، وأقلّه طرح نقاط كشروط لأي جولة قادمة.

الخيارات البديلة، أو المساندة:

الأساس في أي مفاوضات هو ميزان القوى لدى كلّ طرف لأنّه العامل الفاعل في النتائج.

-على صعيد ميزان القوى يبدو النظام راجحًا، نتيجة قراره الواحد ومؤسّساته المتعاضدة، والأهمّ من ذلك وجود حلفاء مساندين له بقوّة وعلى رأسهم روسيا، بينما حالة المعارضة خلاف ذلك إن كان لجهة وضعها غير الموحّد في الموقف والقرار، أو لموقعها على الأرض وما لديها من أوراق، أو لجهة تحالفاتها وعلاقاتها، وبعد الخسائر التي منيّت بها الفصائل العسكريّة بات وضعها أكثر ضعفًا، فضلًا عن افتقارها إلى تحالفات قوية، فعلاقاتها الخاصّة بالحكومة التركيّة قائمة على توافقات رئيسة، وبقية العلاقات، وبخاصّة مع الولايات المتّحدة الأميركيّة وتأثيرها في بقية دول العالم المحسوبة على أنّها أصدقاء الشعب السوريّ فإنّها لا ترتقي إلى مستوى الدعم المطلوب، وما زالت لا تخرج عن إدارة هامشية للملفّ السوريّ بينما تولي اهتمامها الرئيس لقضايا عالميّة وإقليميّة أخرى في مقدّمها العلاقة مع إيران.

-إنّ الإشكال الرئيس عند المعارضة السوريّة لا يكمن فقط في تشتّتها واختلاف الرؤى والمواقف في ما بينها وحسب، بل في علاقاتها بالحاضنة الشعبيّة من جهة، وبالدول ذات الفاعليّة من جهة أخرى.

-إنّ الأساس والسبيل في تغيير هذا الوضع، وامتلاك أوراق فاعلة تكمن في بناء علاقات طبيعية مع الحاضنة الشعبيّة للثورة وجميع الفعاليّات والقوى السياسيّة وإقامة أوطد العلاقات الدائمة معها ضمن ما يعرف بـ(الاصطفاف الوطني) الذي يسعى إلى التوافقات العامّة ووضع الجهد في المنحى العامّ لمواجهة الأخطار والتحدّيات التي يعيشها الوطن، وتأمين مستلزمات الوصول إلى التغيير المنشود، وذلك من خلال مجموعة من الخطوات التي يجب أن يتضمّنها ويضمن تحقيقها برنامج عمل واقعي، وفي مقدّمها:

1-تجديد الخطاب الوطني باتّجاه التوجّه إلى كافّة أطياف الشعب السوريّ ومكوّناته بما يتجاوز الجهات المحسوبة على الثورة والمعارضة إلى تلك (الكتلة الرمادية)، وحتّى المحسوبة على النظام سوى من تلوثت أيديهم بدم الشعب، والاهتمام، أيضًا، بفئات شعبنا تحت سيطرة سلطات الأمر الواقع (قسد وهيئة تحرير الشام) والتوجّه إليها بخطاب المصالحة والتسامح والسلم الأهلي، والاهتمام بمعاناتها وأوضاعها المعيشية والحياتية، وصولًا إلى مساهمتها في بناء مستقبل بلادنا.

2-العمل لإقامة أوسع التحالفات مع القوى السياسيّة السوريّة المحسوبة على المعارضة، والفعاليّات الثوريّة لتجسيد التشاركية، وفتح المجال للحوار الوطني الأوسع الذي يهدف ليس إلى التوافقات حول القضايا الرئيسة وحسب، بل إلى عقد مؤتمر تشاوري وطني يناقش أوضاع الثورة والمخارج، ويعزز السلم الأهلي، ويعالج هيئات المعارضة، بما فيها -بل أساسها- الائتلاف الوطني.

3-الانتقال من حالة المعارضة إلى مفهوم الدولة خاصّة للمناطق المحرّرة بتكريس منظومة الحكم الرشيد، وتمكين الحكومة السوريّة المؤقتة من ممارسة دورها التنفيذي المأمول، وبناء الجيش الوطني المهني، وتعزيز دور المجالس المحليّة، والفعاليّات السياسيّة والشعبيّة.

4-تعزيز الشرعيّة والمشروعيّة عبر تلك العلاقات مع الحاضنة الشعبيّة، والعمل في الوقت نفسه على نزع شرعيّة النظام ورفض الانتخابات التي قد يجريها هذا العام، والعمل على منع إعادة تأهيله، والسعي إلى تقديم كلّ ما يلزم لتحويل رأس النظام وكبار رموزه إلى محكمة الجنايات الدوليّة.

5-إنّ أسبابًا عدة تدعو إلى الاستمرار في المفاوضات في جنيف، لكن يجب العمل على تغيير الشكل والمجرى عبر الإلحاح على وضع هيئة الحكم الانتقالي على جدول المفاوضات كبند رئيس، وتعيين مدّة زمنية لعمل اللجنة الدستوريّة ونهج المفاوضات وآلية التعامل.

6-العمل الحثيث لتغيير الموقف الدولي باتّجاه فرض الحلّ السياسي، وبخاصّة مع الطرف الأميركي، لاتّخاذ القرار الواضح بإلزام النظام بالانصياع للقرارات الدوليّة، وتطوير العلاقات مع الدول العربيّة، وبخاصّة تلك التي تقف مع ثورة الشعب السوريّ، ومع الحكومة التركيّة لما لها من حيثية خاصّة كدولة جوار، وكأكبر دولة تحتضن اللاجئين السوريّين، ودورها في المناطق المحرّرة.

7-وإذا كان أمر الحسم العسكري مبعدًا فإنّ دوره لن يلغى ويجب أن يكون حاضرًا بقوّة في ميزان القوّة وفي معركة التغيير ضمن إطار المقاومة متعدّدة الأشكال التي تأتي في مقدّمتها حركات الاحتجاج والتظاهر، وسياسات النظام بالتجويع والحرمان والقمع وملاحقة المعارضين، بكلّ الوسائل السلمية التي يبدعها الشعب السوريّ.

8-إنّ التفكير بإمكانية إجراء انتخابات برلمانية للسوريّين في المناطق المحرّرة وأماكن اللجوء أمر يجب بحثه ووضعه على سلم الاحتمالات بكلّ ما يقتضيه ذلك من تفاهمات بين السوريّين المعنيين، ومع الجهات الإقليميّة والدوليّة.

9-إنّ استعادة القرار الوطني وتغيير ميزان القوى لمصلحة الثورة هو تحصيل مدى الإنجاز في هذه النقاط التي طرحت، وقد أولى الائتلاف -وبخاصّة في دورته الحالية- الاهتمام الكبير لتجسيد البديل عبر وضع برنامج شامل يتناول الاستناد إلى الداخل السوريّ والوجود في المناطق المحرّرة وفتح عدد من المقرات، وإنجاز وثيقة تجديد الخطاب الوطني، وتشكيل لجنة خاصّة بالحوار الوطني قامت بجهد ولقاءات مستمرّة مع عدد مهم من الفعاليّات السوريّة، وإنجاز الرؤية السياسيّة، ووثيقة الحقوق والحرّيّات، والاهتمام بمنطقة الجزيرة والفرات عبر لجنة خاصّة، وكذا في لجنة الجنوب التي تضمّ كلًّا من محافظات درعا والسويداء والقنيطرة، والإعداد لمؤتمر اللقاء التشاوري الوطني وتقديم ورقة المشروع الوطني في زمن منظور، والتقدّم خطوات مهمّة في إعداد وثائق الحوكمة الرشيدة والانتقال إلى المأسسة الدوليّة، وكذا المطالبة بتغيير نهج اللجنة الدستوريّة وطريقة عملها، والتركيز على بند هيئة الحكم الانتقالي واعتماد وضعها في رأس جدول عمل المفاوضات.

-إنّ السعي الحثيث لتغيير الموقف الأميركي باتّجاه وضع ثقل الإدارة الأميركيّة في الملفّ السوريّ يمثّل اليوم هدفًا مهمًّا يجب الوصول إليه مع الإدارة الجديدة التي لم تفصح -حتّى الآن- عن توجّهاتها التفصيلية في الشأن السوريّ، وتقوم ممثّلية الائتلاف إلى جانب المؤسّسات السوريّة واللجان الفاعلة بدور متواصل للتوصل إلى نتائج إيجابية للموقف الأميركي، وهو ما يتطلب أيضًا تكاتف جميع السوريّين المعنيين للضغط على مراكز التأثير والقرار في أميركا وصولًا إلى موقف فاعل سيكون له أثره في الدول الأوروبيّة وبقية دول العالم، من شأنه منع روسيا من السيطرة على الملفّ السوريّ والتفرد به، وإيقاف المدّ الإيراني والمشروع الخطر الذي يجري تطبيقه في بلادنا.

د. مضر الدبس: مقاربة المسألة السوريّة ومآلاتها المستقبليّة

تعلمنا صيرورة الثورة وتحوّلاتها الابتعاد عن الوصفات الجاهزة وخرائط الطريق الناجزة حين التفكير في حلّ المشكلة السوريّة، وهذا بتقديرنا واحدٌ من أكثر دروس الثورة السياسيّة أهمّيةً؛ فهذا النوع من الصيرورات متعرّج ومتغيّر ومتحوّل، ولا يُقابل بالتنظير المسبق أو المقولب، ولا بالإسهاب في تحليل الأخبار، وفي النبوءة بالسيناريوهات، وتبادل التسجيلات الصوتية والمرئية في غرف التواصل الاجتماعي، ولا يقتصر العمل فيه على توقّع سلوك الدول والتحليل المسهب لجمل سفرائها ووزراء خارجياتها وكلماتهم، بل تقابل هذه الصيرورة التاريخية في تقديرنا بدءًا من التدريب على الشعور بالمسؤولية شعورًا عقلانيًا ووطنيًا، بمسؤولية الكلمة والفعل، الخطاب والسلوك، الكلام والصمت، إلى ما هنالك، وتقابل أيضًا بالفكر السياسي الذي يرتكز على الإبداع والابتكار.

إنّ منهجية الدوران في أفق المجتمع الدولي والإقليمي، والاستناد إليه في مقاربة المسألة السوريّة ومآلاتها المستقبليّة، منهجيةٌ أثبت فشلها مليون مرّة. وبطبيعة الحال هذا الكلام لا يقلل من أهمّية الوضع الدولي والإقليمي وتأثيره في المشهد السوريّ، ولكنّه بالضرورة كلامٌ يعلي من شأن ما تقلل هذه الطريقة عادةً من شأنه وأهمّيته ولا توليه أهمّيةً، وهو ما يمكن أن نسمّيه مشروع بناء مجتمع سياسي سوريّ حقيقي وصونه بأيادٍ سوريّة، بعد كلّ هذا الإخفاق والابتذال.

لا مجال للحديث عن إمكانية التفكير الإستراتيجي من دون بناء هذا المجتمع السياسي السوريّ، وبناء مؤسّسات متماسكة ومتناغمة تمثّله وتعمل بتفويضٍ منه، ولذلك يكون السؤال عن حلول إستراتيجيّة للمشكلة السوريّة هو نفسه السؤال عن آفاق بناء هذا المجتمع السياسي وإمكانيته، والجواب عن هذا الأخير هو في الوقت نفسه جوابٌ عن كلّ تساؤل يدور في فلك ما العمل؟ وما الحلّ؟

كثيرةٌ هي الأفكار التي يمكن للمرء أن يقولها اليوم في بناء مجتمع سياسي سوريّ، ولكن أكثرها أهمّيةً في هذه العجالة فكرة إطلاق حوار عمومي سوريّ يضم السوريّين كلّهم باستثناء الطغمة الحاكمة ومن تلطخت أيديهم بدماء السوريّين. وأن يتكوّن رأس مالٍ اجتماعي سوريّ ينتج من إعادة ثقة السوريّين في بعضهم وإعادة ثقتهم في قدرة السياسة على تغيير أحوالنا الخانقة وحلّ مشكلاتنا الكبيرة والمستعصية. يومها لن تكون أهمّيةٌ تذكر لمحاولات حلفاء الطغمة في إعادة إنتاجها، بل يومها يمكن بناء مقاربة قوية لعلاقات سورية الخارجيّة على أسس ومعايير جديدة مختلفة ترتكز على المصلحة الوطنيّة السوريّة وفنّ تحقيقها.

أميل إلى التوقف قليلًا عند سؤالكم عن مكان أميركا من كلّ ما يجري، ويبدو لنا في هذا السياق أنّ ملخص السياسة الأميركيّة (أوباما / ترامب) يمكن رؤيتها في مستويين: مستوى الصراع على سورية حيث تبنت رؤية تقوم على حماية الحلفاء واستنزاف الأعداء، وفي مستوى الصراع في سورية أظهرت دائمًا تردّدًا وارتباكًا ولم يكن إسقاط النظام أولويةً لديها. يعني يمكن أن نقول إنّ ما كان يعرف بـ(مبدأ أوباما) قد وسمّ السياسة الخارجيّة الأميركيّة في سورية بمجملها، وهو مبدأ انتشر منذ أن كان الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما عضوًا في مجلس الشيوخ، إذ تبنى في آرائه حول السياسة الخارجيّة، ما بات يعرف بـ(مبدأ أوباما) الذي يميل إلى عدم توريط الولايات المتّحدة في معارك خارجيّة، وأنّ أميركا ليست مضطّرة إلى الدخول في حروب استنزاف جديدة في المناطق العربيّة والإسلاميّة، ويمكن التعامل مع التحدّيات كافّة من خلال دعم الحلفاء بالسلاح والتدريب. للمرء أن يلاحظ أنّ هذا المبدأ قد ألحق الخسارة بالمصالح القومية الخارجيّة الأميركيّة ذاتها أكثر ممّا حقّقه من فوائد، زاد التدخل السلبي الإيراني في المنطقة كلّها وتمدّدت قوتها ونفوذها وأدوات الضغط الإقليمي لديها وخصوصًا في العراق، وفي اليمن، وارتكبت جرائم في سورية، وأعمالًا تخريبية في البحرين، وتمدّد حزب الله وتمادى في تعطيل الدولة اللبنانية وتدخل عسكريًّا في سورية، ودخلت ليبيا في متاهة الفوضى، وعاد العسكر إلى حكم مصر بعد بوادر ولادة مشروع دولة ديمقراطيّة، اضطّربت الأوضاع في أوكرانيا ولم تعد المدن الغربية بمنأى عن الإرهاب، توسّع نفوذ التنظيمات الإسلاميّة الراديكالية وسيطرتها، وعُزز الدور الروسي في العالم، إلى آخر ما هنالك من تغيّرات يمكن تصنيفها في المجمل بأنّها خسارة للمصلحة القومية الأميركيّة في المنطقة. لذلك يمكن القول إنّ الأميركيين شركاؤنا في الخسارة والإخفاق هذا المرّة، والأوروبيين أيضًا. ومن المبكر الحكم على مستقبل هذا الإخفاق مع الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن ولكن المؤشرات الأولية لا تبُشر بخلاف ذلك.

أسامة العاشور: الواقع والتوقّع

    – سورية مقسمة واقعيًا إلى ثلاث مناطق نفوذ: أميركي في شرق الفرات بمساحة 25%، وتركي في الشمال بمساحة 11%، وروسي – إيراني في غرب سورية ووسطها بمساحة 64%، وتفاقمت الأزمة الاقتصاديّة والتحدّيات التي تواجه صدقية النظام أو بقاءه حتّى في أوساط الموالين له.

    – استمرار تناقضات القوى المتدخلة في سورية وخلافاتها؛ بين موسكو الراغبة في تقويض هيمنة أميركا على الصراع السوريّ ومخرجاته واحتلال دور إقليمي ودولي مؤثّر، وواشنطن التي منعت روسيا من تحويل التقدّم العسكري الذي حقّقته إلى نصر سياسي، إضافة إلى التناقضات الناتجة من طموحات الأمن القومي التركي وأطماع إيران الطائفية وأمن إسرائيل، وكلّها لا علاقة لسورية وثورتها بها.

    – تعطيل روسيا والنظام المفاوضات بأشكالها ومساراتها كافّة، والعمل على تأهيل النظام عبر الضغط لعودته إلى الجامعة العربيّة ووساطة لإبرام اتّفاق سلام مع إسرائيل، وإجراء انتخابات رئاسيّة، وجمع الأموال لإعادة الاعمار من دون إشراف الامم المتّحدة.

    – استمرار مطالبة الولايات المتّحدة وبعض الدول الأوروبيّة بتثبيت وقف إطلاق النار في شمال سورية، وتقديم الدعم لمشروع (الإدارة الذاتية)، وممارسة الضغوط الدبلوماسية والاقتصاديّة على النظام وحلفائه ورفض المشاركة في إعادة الإعمار إلى حين إنجاز الحلّ السياسي.

المتغيّرات في عهد الإدارة الأميركيّة الجديدة:

لا تمثّل القضيّة السوريّة للإدارة الأميركيّة الحالية أولوية إستراتيجيّة ولا تهديدًا حيويًا، وما تخشى منه واشنطن في سورية هو التمدّد التركي والنفوذ الإيراني والتأثير الروسي، وتتعامل مع هذه الخشية عبر تفعيل الحلول الدبلوماسية والحوار ومن المرجّح أن تسمح لإيران بالاستمرار في الحفاظ على مناطق تمدّد نفوذها الإقليمي، مقابل التخلّي عن البرنامج النووي وعدم التعرّض لـ(أمن إسرائيل)، والحفاظ على وجود قوّات عسكريّة أميركيّة محدودة في شرق الفرات للضغط على تركيا وحماية مناطق سيطرة قوّات سوريا الديمقراطيّة (قسد)، ومحاربة تنظيم الدولة (داعش)، بالتوازي مع استمرار عقوبات قانون (قيصر)، للضغط على روسيا والنظام لقبول الحلّ السياسي.

السيناريوهات المتوقّعة

    استمرار الوضع الراهن وتعطيل الوصول إلى حلّ سياسي لاعتقاد الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين أنّ اللعب على الوقت من مصلحتهم، وأنّ أميركا وأوروبا في نهاية المطاف سيقبلون ببقاء نظام الأسد والتفاوض معه كما فعلوا مع كوريا الشمالية وطالبان، وهذا يعني تحوّل سورية إلى دولة معزولة عن الاقتصاد العالمي ومنبوذة في المستوى السياسي والدبلوماسي، وازدياد المعاناة المعيشية للشعب السوريّ وعدم عودة اللاجئين، وبقاء سورية مقسّمة إلى مناطق نفوذ.

    ازدياد الصراع بين القوى المتدخلة ووكلائهم المحلّيين -الذين لا يحمل أي منهم مقوّمات الاستمرار- وداخل كلّ منطقة نفوذ وانتشار العوز والمجاعة، وفقدان الأمن، وتحوّل سورية إلى دولة فاشلة تشكّل كارثة لحقوق الإنسان وأرضًا خصبة للمتطرّفين وعدم الاستقرار الإقليمي.

    اتّفاق اللاعبين الدوليين على سورية دولة موحّدة دستوريًا، ولكنّها مكوّنة من ثلاث فدراليات جغرافية منطقة إدلب، ومنطقة شرق الفرات، ومنطقة غرب سورية ووسطها، تحتفظ كلّ منها بصلاحيات واسعة في شؤونها الداخليّة. ويحظى هذا الخيار بقبول ضمني روسي – أميركي بعد حلّ القضايا العالقة بينهما وموافقة إيرانيّة بشرط ضمان الاتصال الجغرافي بين العراق وسورية ولبنان ورفض حزام تركي.

    اتّفاق دولي على تطبيق القرار الأممي 2254 وفق القراءة الروسيّة وأطراف مؤتمر آستانا يتضمّن عملية انتقال سياسيّة تحافظ على النظام، مع مشاركة أجزاء من المعارضة في الحكم، الأمر الذي لا يتوافق مع إعادة البناء والتمهيد لعودة اللاجئين على نطاق واسع، وسيكون غالبًا بالضدّ من رغبة الولايات المتّحدة الأميركيّة.

    اتّفاق دولي على تطبيق الحلّ السياسي بموجب ما نصّ عليه القرار 2254 وفق التسلسل الذي ورد فيه بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتّحدة، يُنهي حكم الأسد ويستبدل به نظامًا ديمقراطيًا تعدّديًا عبر تشكيل هيئة حكم انتقالي، ثمّ دستور، ثمّ انتخابات من دون الأسد ومجرمي الحرب، ويفتح الأفق لحلّ مشكلة اللاجئين والتغير الديموغرافي والفقر وإنهاء الجماعات المسلحة والخروج تدريجي للوجود العسكري الأجنبي من سورية، وهو أصعب الخيارات وأعقدها لتعارض مخطّطات القوى العالميّة والإقليميّة وتعددها، والأهمّ من ذلك كلّه تفرّق القوى الحاملة للمشروع الوطني السوريّ ولافاعليتها، ولكن ما يدفع إلى هذا الخيار أنّه لا استقرار ولا عملية بناء شاملة، من دون انتقال سياسي حقيقي متوافق عليه، دوليًا وإقليميًا وسوريًّا.

حسن النيفي: القضيّة السوريّة في ضوء المآلات الراهنة

 جسّدت نهاية 2016 ، وبداية 2017 ، مفصلًا ربّما يكون الأكثر أهمّيةً في سيرورة أحداث الثورة السوريّة، وأعني بذلك استعادة سيطرة النظام على حلب الشرقية، وترحيل ما يقارب 200.000 مواطن من سكانها بالباصات الخضراء، ومن ثمّ بداية مسار آستانا، وكان هذا المفصل إيذانًا بمرحلة جديدة من المواجهة بين قوى الثورة ونظام الأسد، كان من أبرز سماتها بدء التقهقر العسكري للفصائل العسكريّة، بالتوازي مع استعادة النظام معظم المناطق التي كانت خارج سيطرته، بخاصّة ما سُمّيَ بمناطق خفض التصعيد (حمص – الغوطة الشرقية – درعا – القلمون)، ومن ثمّ تمكّن النظام لاحقًا –وبدعم مطلق من حليفيه الروسي والإيراني- من الإجهاز على معظم البلدات الإستراتيجيّة حول إدلب (خان شيخون، سراقب، معرة النعمان، كفرنبل)، فيما حالت المصالح المتشابكة بين موسكو وأنقرة دون اجتياح مدينة إدلب. في حين لم تكن التداعيات السياسيّة أقلّ فداحةً، ذلك أنّ مسار آستانا لم يعد مختصًّا بالقضايا الميدانية والإنسانيّة كما ادّعى القائمون عليه منذ البداية، بل أصبح –كما أراده الروس– المسار البديل من جنيف، وقد عُزّز هذا المسار بقبول فكرة ديمستورا حول السلال الأربع في لقاء جنيف الرابع في 23 شباط/ فبراير 2017 ، ليصبح القرار 2254، بعد القفز من فوق بنوده الإنسانيّة المُلزِمة، وبخاصّة (12 و13 و 14) هو المرجعية الأكثر تداولًا، ربّما لكونه أكثر استيعابًا للتفسيرات والتأويلات المختلفة، ولكن على الرغم من ذلك، فإنّ القيمة الفعليّة للقرار المذكور قد تلاشت حيال مخرجات لقاء سوتشي الأول (30 كانون الثاني/ يناير 2018) الذي اختزل العمليّة السياسيّة بتشكيل لجنة لكتابة الدستور أو تعديله.

يعزو كثيرون الاستعصاء الحاصل في عمل اللجنة الدستوريّة إلى عدم جدّية نظام الأسد في تفاعله مع العمليّة السياسيّة، ومحاولاته الرامية إلى المماطلة واستثمار الوقت، بموازاة تمسّكه واستمراره في الحلّ الأمني. ربّما يعكس هذا التفسير فهمًا عامًا، مبعثه سلوك النظام حيال عملية المفاوضات، ولكنّه لا يعكس بالضرورة الفهم العميق لبنية نظام الأسد وماهيّته، ذلك أنّ مماطلة النظام وعدم تفاعله مع القرارات الأممية واستمراره في نهج القتل والاستئصال إنّما هو نتيجة سبب، تعود جذوره إلى أنّ السوريّين لم يكونوا في مواجهة نظام مستبدّ فاسد كما في بلدان ثورات الربيع العربي الأخرى فحسب، بل هم في الأصل في مواجهة استبداد مُركَّب (سياسي وطائفي) ساهم في تحويل السلطة من (نظام حكم ذي طابع مؤسّساتي)، إلى (طغمة أو عصابة) ولكنّها عصابة أقوى تماسكًا وأشدّ صلابةً من نظام الحكم، من جهة أنّها لا تقبل التفكيك بالوسائل الليّنة أو السياسيّة، فهي إمّا أن تنشطر أو تنفجر فتتهاوى كلّيًّا، أو تبقى قائمة. وفي ضوء هذا الفهم، لا يبدو مُستغربًا هذا الانسداد الذي تواجهه العمليّة السياسيّة، ولا يبدو مُستغربًا أيضًا أن يستنجد كثيرون بالسؤال: أين هو الدور الأميركي حيال المآلات الراهنة للمسار السياسي السوريّ؟ وما الذي يجب على قوى الثورة فعلُه؟

لا جديد في القول: إنّ القضيّة السوريّة منذ إدارة أوباما، مرورًا بإدارة ترامب، وحتّى إدارة بايدن، لم تكن أولوية لواشنطن، ولعله من الصحيح أيضًا أنّ التفرّد الروسي بالملفّ السوريّ إنّما كان نتيجة النأي الأميركي، ولكن ما لا يمكن نكرانه أيضًا، هو أنّ الحضور الأميركي كان -وما يزال- قائمًا، إذ تكفي الإشارة إلى بعض المواقف:

1 – الموقف الأميركي، ومن خلفه الموقف الأوروبي، هو العثرة الأساسيّة أمام رغبة الروس في تحويل منجزهم العسكري إلى مُنجز اقتصادي وسياسي، من خلال رفض واشنطن وأوروبا دعم أي عملية إعادة إعمار من دون الوصول إلى حلّ سياسي وفقًا للقرارات الأممية.

2 – واشنطن كانت هي الكابح الحقيقي أمام عودة نظام الأسد إلى الجامعة العربيّة، ذلك أنّ الرسالة التي وجّهتها الإدارة الأميركيّة إلى الخارجيّة المصريّة في أواخر 2019 كانت صارمة بهذا الخصوص.

3 – إقرار قانون (قيصر) وجملة العقوبات الاقتصاديّة التي تضيق الخناق على نظام الأسد، إنّما هي أميركيّة بامتياز.

ولعل هذا التأرجح في الموقف الأميركي، بين النأي عن التدخل المباشر من جهة، والاستمرار في فرض العقوبات الاقتصاديّة والضغط الإعلامي من جهة أخرى، إنّما مبعثه الحقيقي هو أنّ حضور القضيّة السوريّة في الأجندة الأميركيّة ليس حضورًا مُستهدفًا بذاته، بل هو مُلحَقٌ بالموقف من إيران، ذلك الموقف الذي اتّسم –تاريخيًا– بكثير من التعقيدات والمتناقضات، وما يزال حتّى الوقت الراهن مفتوحًا على احتمالات عدّة. أضف إلى ذلك، أنّ النأي الأميركي -في جزء كبير منه- ذو صلة بمسعى الإدارة الأميركيّة إلى استنزاف الموقف الروسي، أو إغراق موسكو في جحيم المقتلة السوريّة، وعدم تمكين بوتين من الحصول على ما يريده من سورية -إستراتيجيًّا واقتصاديًّا- بالسهولة التي يتخيلها.

لعل حالة الانسداد أمام أي تقدّم في المسار التفاوضي بين النظام والمعارضة، إنّما تجسّد استمرار صراع المصالح بين الدول النافذة على مسرح الجغرافيا السوريّة، بل ليس ثمّة ما يشير إلى اقتراب هذا الصراع إلى الحسم، وفي موازاة ذلك، يتساءل كثير من السوريّين: هل ثمّة جدوى من التعويل على عملية سياسيّة قد أُفرِغتْ من محتواها الجوهري، وما بقي منها (لجنة الدستور) ليست سوى وسيلة يستثمرها النظام لكسب الوقت وتمرير حلوله الأمنيّة وإعادة تعويمه من جديد؟ وهل يمكن التعويل على ما سيسفر عنه صراع المصالح الدوليّة والإقليميّة، مع العلم التامّ بأنّ المصلحة السوريّة هي طرف غائب في أولويّات مصالح الدول المتصارعة؟ وعلى الرغم من تباين الأجوبة المتوقّعة عن الأسئلة السالفة، فإنّه يمكن القول: ثمّة مساحة أخرى للمواجهة، يمكن أن يخوضها السوريّون، وهي المساحة المتبقية التي لا يملك النظام وحلفاؤه فيها أوراق قوّة، ولا يمسكون بزمام المبادرة، وأعني بذلك المواجهة الحقوقية والإنسانيّة، ذلك أنّ السقوط الأخلاقي لنظام الأسد بسبب سلوكه الموغل في التوحّش، قد أتاح المجال للعالم أجمع أن يقف على مئات الآلاف من الأدلّة والوثائق التي تكفي لبدء مواجهات عنيفة يخوضها السوريّون أمام جميع المحاكم المعنية في العالم، ولئن بدت تلك المواجهات ذات الطابع الحقوقي والإنساني ذات مردود غير مباشر يرقى إلى مستوى معاناة السوريّين، إلّا أنّها –بلا شك – تعود بمردود تراكمي منبثقٍ من تضحيات السوريّين ونضالاتهم، وغير خاضع للوصاية والاستثمار الدوليين.

إنّ تحوّل النشاط الحقوقي لعدد من الكفاءات السوريّة من حقول النشاط الفردي إلى العمل المؤطّر والقائم على التنسيق بين الأفراد والمنظمات الحقوقية، بغية الوصول إلى أصحاب القرار والمرجعيات القضائية الدوليّة والتأثير فيهم، لهو من الأولويّات الراهنة، ليس لأنّه سيكون بديلًا من سبل أخرى للمواجهة، بل لأنّه -على الأقلّ- يساهم في بقاء القضيّة السوريّة حيّةً في الضمائر والأذهان.

غسان المفلح: لا حلّ في الأفق

في الواقع هنالك مغالطة تحمل تشويهًا وتضليلًا وتبريرًا للجريمة. هذه المغالطة تستند إلى حيثية تقول الآتي: إنّ ما حدث في سورية، يتحمّله الشعب السوريّ والمعارضة السوريّة.

يستند هذا الرأي إلى أنّ العالم القوي غير متدخل في الشأن السوريّ. أو أنّ هذا العالم القوي الذي تمثّله دول مجلس الأمن قانونيًا، وتمثّله أيضًا دول الاتّحاد الأوروبي بالتحالف مع أميركا التي هي واجهة القوّة في العالم، لم يجد بديلًا للأسد، أو لم يجد بديلًا سياسيًّا يؤمّن مصالحه في سورية غير الأسد، من جهة أخرى تتردّد عبارة لهؤلاء تقول: “كلّ شيء نرميه على إسرائيل” أو أنّ “سببه إسرائيل”. في عبارة ذات طابع استنكاري بالطبع، في الإقليم السيادة الكبرى لأميركا والصغرى لإسرائيل أقلّه فيما يُسمّى دول الطوق. سلطات غاشمة مع دول فاشلة. هذه إستراتيجيّة قديمة جديدة وتتجدّد، وفي كلّ مرحلة يلبسونها رداءً جديدًا. ليس أدل على ذلك من أنّ روسيا وإيران لا تستطيعان الرد على إسرائيل في غاراتها شبه اليومية على سورية. فلمن تكون السيادة في الأجواء السوريّة إذًا؟ في المقابل نلاحظ أنّ الطيران التركي لا يستطيع اختراق المجال الجوي للمناطق الخاضعة لسيطرة الأسد. بينما يقصف الطيران الروسي في المناطق الخاضعة لسيطرة تركيا. النتيجة عندما تقول إسرائيل هذا يعني نسبيًا أميركا أيضًا.

قبل أن نحاول استيضاح هذه القضيّة، لا بدّ لي من القول، إنّه منذ 2005 -العام الذي بدأ فيه احتكاكي المتواضع مع السياسة الأميركيّة- كان كلّ عام يمضي أجد أنّ أي رهان إنساني على السياسة الأميركيّة هو محض هراء. لكن في المقابل لا فكاك من هذا الأخطبوط العالمي. ما يجعلك تطرح على نفسك السؤال الأهمّ في معادلتنا السوريّة بخاصّة والشرق أوسطيّة بعامّة: كيف يمكننا التعامل مع هذا الأخطبوط؟ كيف يمكن التعامل من قبل المعارضة السوريّة مع هذه الأميركا؟

وجدت بعد انطلاق الربيع العربي، والثورة السوريّة بخاصّة، أنّ هذا السؤال يحتوي على جانب عبثي، قبل معرفة الإجابة عن سؤال: ماهي علاقة أميركا بالنظام السوريّ وسورية والشرق الأوسط؟

هذا السؤال هو ما شغلني كثيرًا في الحقيقة وما يزال. لأنّني حاولت مرارًا وتكرارًا الهرب من عنوان طالما واجهني وأنا أبحث في هذا الحقل، وهو (أميركا تدير الشرق الأوسط، بشركاء أم من دون بحسب كلّ ملفّ). نعم أميركا تدير الشرق الأوسط.

أميركا متدخلة بشكلٍ كثيف في كلّ دوله ومجتمعاته. هذا الأمر لم يعد يحتاج إلى كثير من الشرح والتفصيل. ما تعيشه شعوب المنطقة منذ عقود هو نتاج لهذا التدخل. ولا بدّ لنا من التأكيد أنّ كلّ القوى المتدخلة في سورية لاحتلال ثورتها، كلّ القوى من دون استثناء -وعلى رأسها روسيا- تدخلت للحفاظ على الأسد أميركيًا من خلال تشاركها مع أميركا الذي يبدو في لحظات تنافسيًا أو صراعًا.

هذه القوى متشاركة بشكلٍ مباشر أو غير مباشر في الإستراتيجيّة الأميركيّة. الإستراتيجيّة الأميركيّة التي تقوم في أحد ركائزها على أنّ القضيّة التي لا تريد أميركا حلّها، أو تريد تزمينها وتعفين وضعها حتّى، ترميها إلى أروقة الأمم المتّحدة. حيث لا حلّ حتّى الآن أو في الأفق. إذا حدث تأهيل الأسد، ماذا يعني أولًا تأهيل الأسد؟ هل يعني عودة كلّ سورية المحتلّة إلى سيطرة الأسد؟ أم هي إجراء انتخابات شكلانية بحماية روسيا وإيران وإبقاء الوضع الحالي كما هو؟ ثلاث سيادات: أميركيّة في شرق الفرات، وتركيّة في غربه خارج الخريطة الأسدية من جهة، وأسدية إيرانيّة روسيّة مشتركة من جهة أخرى.

تركت أميركا أسدية هزيلة؛ قصر الشعب في دمشق ومقعدًا في الأمم المتّحدة، والشعب السوريّ ضرر جانبي. أمّا سياديًا فأسدية ما قبل الثورة لم تعد موجودة ولن تعود.

أميركا من القوّة في الشرق الاوسط، أنّها لا تحتاج إلى جحافل جيوشها، كي تأتي إليه لتغيير نظام سياسي، أو لفرض أجندة سياسيّة ما. ما هو موجود من جيوش أكثر من كافٍ. ها هي جربت في سورية بـ 900 جندي فقط احتلّت 60.000 كم2 وهي المنطقة الأغنى في سورية. على الرغم من أنف بقية الحبايب. حتّى إنّها لا تحتاج إليهم. يكفي أن تُبقي العلم الأميركي مرفوعًا فوق منطقة تحدّدها. هذه القوّة تراكمت عبر سبعين عامًا وأكثر. هي من حوّلت روسيا وإيران وتركيا في سورية إلى قوى تخريبية لا أكثر ولا تستطيع هذه الدول وبقية دول الملفّ السوريّ، فرض حلّ سياسي من دون أميركا. ما علاقة أميركا إذًا بأنظمة المنطقة؟ لماذا لا تهتمّ بقتل شعوب المنطقة سواءً من أنظمتها أو من أنظمة أخرى بما فيها أميركا؟ الشعب السوريّ ليس استثناء. في الحصيلة لن يكون هنالك حلّ عبر الأمم المتّحدة، وليس هنالك حلّ في الأفق الأميركي. خطورة هذا الوضع ببساطة إبقاء ثلاث مناطق أمنيّة عسكريّة، إلى زمن لا أحد يتكهن بنهايته. ما يعني حالة شبيهة بما جرى في الجولان المحتلّ. لا حرب ولا سلم منذ أكثر من خمسة عقود، والموت بالتقادم لقضية الجولان. ما يعني بشكلٍ أو بآخر إنتاج وضع تقسيمي غير “مدستر” وغير معلن إلى ما شاء الله. هذا السيناريو الأكثر ترجيحًا بالنسبة إلي، وأتمنى أن أكون خاطئًا.

مهند الكاطع: العمليّة السياسيّة لم تبدأ حتّى نعلن فشلها

لا يخفى على أحد بأنّ العمليّة السياسيّة في سورية تعاني جمودًا كبيرًا وشللًا شبه تامّ في كافّة المستويات والأطر التنظيميّة ومنذ سنوات طويلة، بل لم تعد المعارضة السوريّة اليوم تحظى بأي دعم دولي حقيقي، وعشرات الدول التي كانت تُسمّي نفسها بـ (أصدقاء الشعب السوريّ) أحجمت عن تقديم أي دعم حقيقي للشعب السوريّ في ثورته ضدّ نظام الاستبداد في وقت باكر ومنذ 2013 ولأسباب عدة يطول شرحها، لكنّها لا تخرج عن دائرة المخاوف الغربية من نتائج ثورات الربيع العربي التي ربّما لا تنسجم مع سياسات المجتمع الغربي تّجاه الشعوب العربيّة، وجاءت مسألة الجماعات الإرهابية الراديكالية مثل (داعش) و(النصرة)، شماعة تبرّر للمجتمع الدولي تقاعسه عن مساندة الشعب السوريّ في ثورته العادلة. فلم تعد المسألة السوريّة مدرجة على قائمة اهتمام المجتمع الدولي وبشكلٍ خاصّ الولايات المتّحدة الأميركيّة التي لا يبدو أنّها تستعجل الخطوات للعمل على حلّ جذري (حلّ سياسي) يسمح بإنهاء معاناة الشعب السوريّ، بل على العكس تمامًا، لم تزد الخطوات التي قامت بها الولايات المتّحدة منذ عهد أوباما ومرورًا بعهد ترامب الأمور إلّا تعقيدًا، وبخاصّة مع اتّخاذ أميركا خطوات قضت بفرض حظر على وصول الأسلحة النوعية إلى معارضي النظام، وقامت تحت شعار (الحرب على الإرهاب) بدعم الميليشيات الانفصالية التابعة لـ(حزب العمال الكردستاني) التي كانت حتّى نهاية 2015 متحالفة عسكريًّا بالكامل مع النظام، بل حمتها من النظام بعد توتر العلاقة بين الطرفين، وذلك بفرض حظر طيران على مناطق شرق الفرات، في الوقت الذي بقيت طائرات النظام ومدفعيته تقصف الشعب السوريّ والمعارضة في باقي المناطق السوريّة. 

على أي حال، لم تعد الحلول العسكريّة مطروحة اليوم مع كلّ هذا التعقيد في المشهد العسكري على الساحة السوريّة، وكلّ الآمال كانت معقودة على أن يتحمّل المجتمع الدولي مسؤولياته لتنفيذ قرارات الأمم المتّحدة الخاصّة بسورية (2118 و 2254) التي تتطلب تضافر جميع الدول الفاعلة للبدء بدعم خطوة الانتقال السياسي الذي يمثّل الخطوة (السلّة) الأولى من خطوات الحلّ في سورية، وبدلًا من ذلك، فقد حصل التفاف على جميع خطوات الحلّ السياسي، وجرى التركيز على مسارات جانبية لم تزد الطين إلّا بلّة، كمسار آستانا أو مسار اللجنة الدستوريّة التي أدخلت السوريّين في متاهات مضيعة للوقت، قبل البدء بمفاوضات ماراثونية مع النظام المماطل حول (شكل الدستور) كما لو كانت هذه أساس معضلة السوريّين، فالمجتمع الدولي كان يعرف أنّ النظام غير جاد، ولم يكن أحد يتوقّع أي توصل إلى نتائج إيجابية من هذه الخطوة العكسية تفتح بوابة أمل لبحث باقي الملفّات، ولم يجنِ السوريّون من كلّ هذا سوى إطالة أمد معاناتهم وتردي واقعهم الاقتصادي والمعيشي بشكلٍ كارثي وفظيع ينذر بكارثة تهدّد حياة من تبقى من الشعب السوريّ ومستقبلهم.

لا أظن أن العمليّة السياسيّة بدأت حتّى نعلن فشلها، والنظام -في رأيي- هو محض واجهة للتعطيل، أمّا من يقف خلف حالة الجمود والتعطيل في الحلّ السياسي فهو القوى الدوليّة والإقليميّة الفاعلة في الشأن السوريّ، وبشكلٍ خاصّ أميركا، وروسيا، وتركيا، وإيران، وبعض الدول الأوروبيّة التي ما تزال مصالحها متضاربة ولم تصل إلى تسوية حقيقية تسمح لها بدفع العمليّة السياسيّة في سورية إلى الأمام وإنجاز حلّ سياسي منسجم مع قرار الأمم المتّحدة 2254 ليتحقّق انتقال سياسي وإطلاق سراح المعتقلين والكشف عن مصير المغيبين، وإنجاز باقي القضايا والبدء بطي مسيرة مؤلمة يعيشها الشعب السوريّ منذ عشر سنوات.

بالنسبة إلى الروس، شكّلت سلسلة الاتّفاقيات التي عُقدت مع النظام السوريّ المتهالك، الورقة التي استند إليها الروس في تحقيق مصالحهم، وتعزيز وجودهم العسكري وموقفهم السياسي في الساحة السوريّة، حتى لم يعد للنظام أي دور يذكر وفقد كثيرًا من نقاط التحكم والقرار والسيطرة لمصلحة الروس، لذلك في ظلّ عملية الجمود السياسي -التي قلنا إنّها بسبب تضارب مصالح دوليّة وإقليميّة في سورية بالدرجة الأولى- سيسعى الروس إلى الاستمرار في مسرحية تنصيب بشار الأسد رئيسًا من دون قرار لسورية. أمّا بالنسبة إلى الأميركيين وحتّى المجتمع الدولي، فوجود بشار الأسد في السلطة غير مرتبط بتاتًا بمسألة الانتخابات الرئاسيّة في سورية، وفي حال كانت هناك نية أو توافق للشروع في عملية سياسيّة حقيقية، ستُدعم عملية انتقال سياسي للسلطة، حتّى لو كان ذلك بعد تنصيب بشار الأسد بيوم واحد.

بهنان يامين: سورية الثورة الى أين في نهاية عامها العاشر؟

تطوي الثورة السوريّة -وقد يسمّيها بعض حراكًا ثوريًّا أو فورة، لا تهمّ التسمية- عامها العاشر لتخطو نحو العام الحادي عشر، فإلى أين تتّجه سورية؟ هل هناك آمال بأن يوجد حلّ، فالمستعمِر الروسي يحاول أن يلمع صورة النظام حينًا بإجراء انتخابات رئاسيّة، ويطرح المجلس العسكري تارةً أخرى بديلًا من النظام القائم، وطورًا آخر يدعو إلى اجتماعات اللجنة الدستوريّة، التي ولدت مخصية سواء بكامل هيئتها أم بهيئتها المصغّرة.

الحقيقة المرّة والمبكية في الآن ذاته، ألا حلّ في الأفق للمسألة السوريّة، فالنظام يسعى إلى لعبة الانتخابات الرئاسيّة، والكلّ يعرف بأنّ مثل هذه الانتخابات غير شرعيّة، والمعارضة تتقبل أحيانًا الطرح الروسي بالمشاركة في الانتخابات الرئاسيّة، وكذلك المجلس العسكري الذي قد يكون مناف طلاس رئيسًا له، ولقد دخلت (الإدارة الذاتية) على الخط الروسي لتتقبل المساهمة في المجلس العسكري.

كلّ هذه الحلول هي حلول خارجة عن قرارات الأمم المتّحدة التي دعت إلى سلطة انتقاليّة، تؤسّس لدولة وطنيّة ديمقراطيّة، بقي النظام والمستعمِر الروسي والإيراني والتركي والأميركي، يحاول منع قيام مثلها، ولقد نجحوا إلى حدٍّ ما في إجهاض هذه الخطوة التي لم يتقبلها النظام المستبدّ، والكلّ يكذب على الشعب السوريّ، وبخاصّة على قواه الوطنيّة الديمقراطيّة التي تسعى بصدق إلى نقل سورية من دولة فاشلة إلى دولة فعليّة، تعتمد الإرادة الشعبيّة في تكوين دستورها.

هل الانتخابات الرئاسيّة السوريّة شرعيّة؟ طبعًا ليست كذلك؛ لأنّ الشرعيّة يجب أن تستمدّ شرعيّتها من دستور سوريّ شرعي، فدستور 2012 الذي جاء مسخًا ونسخة مشوّهة عن دستور 1973، دستور حافظ الأسد، فمن وضع هذا الدستور، والدستور الذي قبله، ليسوا من ذوي الاختصاص بالقانون الدستوري، بل هم مجموعة شكّلتها الأجهزة الأمنيّة لكي تؤكّد دكتاتوريّة الجالس في قصر قاسيون، سواء أكان بشار أم مناف أم أم.. إلخ.

من هنا فإنّ أي انتخابات في كافّة المستويات، من أسفل الهرم إلى قمته، هي انتخابات غير شرعيّة، وبالطبع إن جرت فإنّ نتيجتها معروفة، ألّا وهي إعادة انتخاب بشار الأسد، فترة رئاسية جديدة، أي سبع سنوات أخرى من المخاتلة، والاحتيال، والقتل، والتشريد، والتدمير، واستمرار هذا الحكم سيوصل بالطبع إلى مزيد من التأكل في الجسد السوريّ.

هل يستطيع المجلس العسكري المطروح، أن يشكّل حلًّا للسلطة السياسيّة في سورية؟ قطعًا لا لأنّ أي دارس للأوضاع السياسيّة، ليس في سورية فحسب، بل في كلّ المنطقة، يصل إلى نتيجة حتميّة، بأنّ سبب هذا البلاء هو العسكر، وما ينتجه العسكر من أجهزة أمنيّة. من هنا فإنّ مثل هذا المجلس ليس بشرعي لأنّه لا يمثّل تطلعات الشعب السوريّ، فهم لم يثوروا من أجل استبدال عسكر بعسكر، فالعسكر مكانهم الثكنات لا السياسة، ويجب أن يخضعوا للسياسي وليس العكس، وإن أراد العسكر أدوارًا سياسيةً، فعليهم الاستقالة من مناصبهم العسكريّة، ويكون ما بين استقالة أحدهم ومشاركته في السلطة السياسيّة مدة زمنية مقبولة لكي يتأهل إلى دخول المعترك السياسي، والابتعاد عن الجيش، وإلّا سنكون أمام نموذج (ميانمار) حيث ينقلب فيها العسكر على السلطة كما يحلو لهم ذلك.

هناك من يقول إنّ (الإدارة الذاتية) الكرديّة -أقول الكرديّة لأنّ باقي المكوّنات السوريّة لا وجود لها في هذه الإدارة، وإن وجد بعض منهم فهم (ديكورات)- هي نموذج ناجح بديل للسلطة السياسيّة في دمشق، وهذا القول باطل لأنّ هذه الإدارة خاضعة لـ(حزب العمال الكردستاني) التركي، المتمركز في وادي قنديل، وممارستها هي ممارسة شبيهة بممارسات النظام، ولنا مثال في تصرفاتها في محافظات الرقة، ودير الزور، والحسكة، أي في منطقة الجزيرة السوريّة، فضلًا عن خضوعها للسياسة الأميركيّة، ولدكتاتوريّة عبد الله أوجلان. إنّ سياسة (تكريد) محافظات الجزيرة أوصلت إلى التدخل العسكري التركي ما بين رأس العين وتل أبيض وهي منطقة عشائر عربيّة، لا أكراد فيها وإن وجدوا فهم أقلّيّة ضئيلة.

كلّ هذه الطروحات، وغيرها، لا تشكّل حلًّا للمسألة السوريّة، كونها طروحات استعمارية ومرفوضة من القوى الديمقراطيّة السوريّة، الطامحة إلى قيام دولة المواطنة الديمقراطيّة قائمة على أسس دستوريّة تفصل ما بين الدين والدولة، وترسي دولة عصريّة تدخل سورية إلى الحداثة.

فراس علاوي: السيناريو العراقي الأقرب إلى الحلّ في سورية

عقد كامل مضى على انطلاق الثورة السوريّة شهد فشلًا كاملًا للمجتمع الدولي في الوصول إلى حلّ يرضي السوريّين، ولعل أبرز أسباب هذا الفشل هو الانقسام الدولي وتضارب المشروعات الدوليّة في سورية، ما أنتج عددًا من الصراعات الثانويّة السياسيّة والعسكريّة على الأرض السوريّة، فعلى الرغم من التوافق الدولي على القرار 225‪4 إلّا أنّ الاختلاف على تفسيره وفق مصالح الدول المتدخلة أدى إلى زيادة هذا الخلاف، وازدياد حدّة الانقسام أدى إلى نشوء مسارات سياسيّة أخرى، وتسبب في انقسامات في أجسام المعارضة التي بدأت تخضع لتوافقات دوليّة وإقليميّة، أبرز تلك المسارات مساري آستانا وسوتشي التي أنتجت ما سُمّيَ اللجنة الدستوريّة، في قفز على تراتبيّة القرار 225‪4 الذي يقرّ بيئة آمنة، ثمّ هيئة حكم انتقالي، ثمّ دستور، ويلي ذلك الانتخابات.

مسار اللجنة الدستوريّة بشكلٍه الحالي يتناسب مع الرؤية الروسيّة التي عملت مع النظام على تكتيكات تفاوض من شأنها إغراق اللجنة بالتفاصيل والابتعاد عن بحث دستور وفق رؤية السوريّين، ومن ثم الوصول إلى الانتخابات المزمع القيام بها في منتصف العام الحالي 202‪1. إذ يرغب الروس من خلالها دعم انتخاب بشار الأسد بحسب دستور 201‪2. وما الدعم الروسي والإيراني المقدّم للأسد -لا يختلف اثنان على أنّه المرشح أو الفائز الوحيد في هذه الانتخابات الشكليّة، إلّا لتثبيت أقدامهم من خلال إعادة تعويم النظام واستخدام هذا التعويم ورقة ضغط في التنافس مع الأميركان في سورية.

هذا الدعم يتزامن مع تراجع الاهتمام الأميركي -ومن ثم الأوروبي- بالملفّ السوريّ وإلحاقه بملفّات أخرى أبرزها الصراع الأميركي – الإيراني في المنطقة، وهذا التراجع الواضح يفسر ذهاب الروس بعيدًا في فرض حلولهم في سورية وإن كانت حلولًا مرحليّة لكنّها تؤثّر في الوضع الراهن. هذا الاستعصاء في الوضع السوريّ يجعل استشراف أي حلول من الصعوبة بمكان، وبخاصّة مع إدارة بايدن التي تشبه نوعًا ما في إستراتيجيّتها بالتعاطي مع الملفّ السوريّ ما ذهبت إليه إدارة أوباما التي رهنت الملفّ السوريّ بمباحثات الاتّفاق النووي مع إيران، ومن ثم الابتعاد عن سياسة الضغط الأقصى التي اتبعها ترامب. ليدخل الصراع مرحلة التنافس في سورية على الرغم من الامتعاض الإسرائيلي سيكون الذهاب بعيدًا في إعطاء إيران حيّزًا أكبر من التمدّد في محيطها الجغرافي أحد المشكلات الأساسيّة التي تهدّد أي حلّ في سورية.

الاستعصاء الحاصل في الملفّ السوريّ مردّه الأساسي لرؤى ومصالح سياسيّة واقتصاديّة متعلّقة بالدول المتدخلة، وأيضًا لتجارب سبقت الملفّ السوريّ في العلاقة بين الدول المتدخلة، كما حصل في العراق حين استفرد الأميركان بالحلّ، ما أثار في حينها امتعاض الروس، وكذلك كما حصل في الملفّ الليبي حيث أقصِيت روسيا من الحلّ هناك ما جعلها تعود لاحقًا عبر عمليات عرقلة وتعطيل أي حلّ. وهناك صراعات جزئيّة لا يمكن الوصول إلى الحلّ في سورية من دون المرور عبرها وإيجاد حلول لها، فمن أجل الوصول إلى حلّ شامل في سورية لا بدّ من إنهاء حالة التنازع والتنافس على الجغرافيا السوريّة، وبناء إستراتيجيّة تقوم على إنهاء النزاعات المحليّة وصولًا إلى حلّ سياسي شامل يضمن مصالح الدول المتدخلة، ولعل أبرز هذه الصراعات هي:

1 – الصراع التركي – الكردي (حزب العمال الكردستاني/pkk)، حيث أصبح شمال وشمال شرق سورية مسرحًا له إذ تسعى تركيا إلى منع قيام كيان كردي في وقت تحاول فيه بعض الأحزاب الكرديّة استغلال الوضع السوريّ لإقامته، ومن ثم إبعاد خطر (pkk) عن الداخل التركي للحفاظ على أمنها القومي، وأي انخراط في عملية سياسيّة تضمن من خلالها تركيا تحقيق أهدافها ستساهم في الاقتراب من حلّ شامل في سورية، ولعل تطوير اتّفاق أضنة 199‪8 بين تركيا وسورية قد يعد محفزًا لقبول تركي بالحلّ السياسي المرتقب.

2 – الصراع الثاني هو الأميركي – الإيراني، وهو صراع متشعب ومتغيّر بحسب الإدارات الأميركيّة، لذا فازدياد حدّة الصراع أو التوصل إلى اتّفاق سيؤدي إلى اقتراب الحلّ في سورية، لكن لكلّ حلّ تأثيره المختلف ونتائجه المختلفة. من هنا نستطيع تقييم الموقف الأميركي من خلال التصعيد الإسرائيلي أو تراجع مستوى التصعيد كما حدث في إدارة أوباما، إذ يلعب دورًا أساسيًّا في التوصل إلى اتّفاق أميركي – إيراني.

المشكلة الأساس المتعلّقة بهذا الملفّ هي تحوّل الملفّ السوريّ إلى ملفّ ملحق وليس ملفًّا أساسيًّا في الحلّ بالمنطقة، لذلك فإنّ إدارة الصراع في سورية من هذا المنطلق تعتمد بشكلٍ كبير على مدى اشتراطات كل من إيران وإسرائيل ومدى تحقيق التوافق بينهما أميركيًا من حيث الوصول إلى اتّفاق شامل مع إيران يعيد إحياء الاتّفاق النووي، لكن بشروط جديدة وفق رؤية إدارة بايدن. من جهتها فإنّ السلطة في إيران تلقفت الرغبة الأميركيّة في عدم الذهاب إلى تصعيد جديد والابتعاد عن ممارسة سياسة الضغط الأقصى لتبدأ برفع عتبة شروطها والعمل على استخدام الورقة السوريّة ورقة ضغط واضحة على ملفّ الصراع ما يعني تعقيدًا آخر في الحلّ السوريّ.

3 – الصراع الثالث هو الصراع الأميركي – الروسي، إذ اختارت روسيا بعد خساراتها في العراق وليبيا الساحة السوريّة لخوض صراع من نوع آخر مع الأميركان من خلال التدخل المباشر في سورية، وقد استفاد الروس من التراجع أو عدم الاهتمام الأميركي للتدخل ومحاولة فرض رؤية وشكل للحلّ يعتمد على إعادة سيطرة نظام الأسد عسكريًّا من خلال ما سُمّيَ بمناطق خفض التصعيد (وهو ما لاقى رضى أميركيًا)، ومحاولة فرض رؤية روسيّة للحلّ السياسي من خلال إعادة تعويم النظام، وهذا الأمر يلقى حتّى الآن رفضًا أميركيًّا. وازدياد حدّة هذا الصراع قد يسرّع الوصول إلى حلٍّ، وكذلك التوصل إلى توافقات في ملفّات أخرى في القرم وأوكرانيا من شأته أن يسرع الحلّ في سورية، ومن دون هذه الحدّة سيبقى الحلّ يراوح مكانه بين الطرفين.

 العامل المشترك لجميع التدخلات الدوليّة في الملفّ السوريّ هو (مكافحة الإرهاب) وتنظيم (داعش) بصورة خاصّة، فنشاط التنظيم وصعوده مجددًا -على الرغم من إعلان القضاء عليه سابقًا- سيلعب دورًا في طبيعة الحلّ السوريّ وشكله. لذلك فإنّ إستراتيجيّة الحلّ تبدو معقدة ومتشابكة الخيوط ومن الصعب تفكيكها إلّا من خلال تفكيك جزئياتها ويعتمد ذلك على الرغبة الأميركيّة في الحلّ بصورة خاصّة. فيما تراجع إدارة بايدن إستراتيجيّتها المتعلّقة بالشرق الأوسط لا يبدو الملفّ السوريّ أولوية للأميركيين. وسيبقى الحلّ في سورية مرتبطًا بملفّات أخرى أكثر تعقيدًا ما لم تصل التدخلات الدوليّة إلى حدّة كافية تهدّد بتغيير قواعد الاشتباك، حينها فقط ستذهب الدول نحو الحلّ تجنبًا للتصعيد العسكري، إذ لا تملك تلك الدول بما فيها الولايات المتّحدة وروسيا الرغبة في الذهاب بعيدًا في حرب مفتوحة من أجل سورية.

لذلك فإنّ جميع سيناريوهات الحلّ المتوقّعة تعتمد بشكلٍ رئيس على إنهاء هذه الصراعات من جهة، وإيجاد نوع من التوافق حول مسائل إعادة الإعمار إذ سيكون لمتعهدي عملية الإعمار حصّة من الحلّ.

ولعل السيناريو العراقي يبدو الأقرب إلى الحلّ في سورية على الرغم من مساوئه إلّا أنّ الحلول التوافقيّة غالبًا ما تكون نتائجها أقرب إلى المحاصصة والتقسيم من أجل إرضاء جميع الأطراف الفاعلة وإعطائها حصّة من كعكة الحلّ في سورية. وهذا الحلّ لن يحقّق طموحات الشعب السوريّ لكنّه ربّما سيوقف ولو جزئيًّا دوامة العنف السوريّة التي تعدّدت ملفّاتها بما فيها ملفّ اللاجئين في دول العالم، وملفّ معتقلي تنظيم (داعش) في سورية، وكذلك ملفّي العدالة الانتقاليّة وإعادة الإعمار وغيرها من ملفّات.

سيناريوهات الحلّ في سورية في موازين قيادات وناشطين سوريّين (3/2)

هادي البحرة: الإستراتيجيّات المطروحة تصبّ في غير المصالح الوطنيّة السوريّة

د. سميرة مبيض: سورية المستقبل: الانطلاق من الواقع السوري نحو بناء سورية الحديثة

د. سمير العبد الله: الجمود هو السيناريو المتوقّع في المدى القريب

صباح الحلّاق: إستراتيجيّة بعيون نسويّة سوريّة أساسها العدالة للجميع

د. خلدون النبواني: خطر ضياع سورية كدولة هو السيناريو الأقرب لنا

واحة الراهب: استعادة اللحمة الداخليّة لبناء عقد اجتماعي جديد

عز الدين الملا: الحلول النهائيّة ليست بيد السوريّين

بسام طبلية: سيناريوهات للخروج من هذا الاستعصاء

مرح البقاعي: علينا كسوريّين أفرادًا ومؤسّسات تكثيف التواصل مع الإدارة الأميركيّة

د. محمد الأحمد: لا طريق أمام السوريّين الثوريّين إلّا خلق عصبة وطنيّة قويّة جديدة

جوان يوسف: السيناريو المفقود وأطراف الحلّ في سورية

خالد قنوت: استمرار المدّ الشعبي الثوري بعد عشر سنوات من عمر الثورة

فاروق حجّي مصطفى: مقبلون على التغيير من رحم القرار الأممي لا غير

بعد اندلاع الثورة السوريّة، في آذار/ مارس 2011، التي طالبت برحيل بشار الأسد وأركان نظامه الاستبدادي الطائفي الفاسد؛ دفع أحرار سورية وحرائرها -على مدار السنوات العشر الماضية- أثمانًا باهظة، على درب الآلام والجُلجُلة نحو الحرّيّة والديمقراطيّة وبناء دولة القانون والمواطنة، وثّقتها (الشبكة السوريّة لحقوق الإنسان) في تقريرها الصادر بمناسبة الذكرى العاشرة لانطلاق الثورة، الذي بيّنَ مقتل 227.413 مدنيًّا، بينهم 14.506 بسبب التعذيب، واعتقال/ إخفاء قسري 149.361 شخصًا، وتشريد نحو 13 مليون سوري، فضلًا عن وجود أكثر من 12 مليون يكابدون المشقات لتأمين قوتهم اليومي، وعيش أكثر من مليوني إنسان في فقر مدقع، وغير ذلك من المآسي والخسائر البشريّة والاقتصاديّة، ودمار نسبة كبيرة من العمران والبنية التحتيّة التي خلّفها الإرهاب الأسدي – الروسي – الإيراني.

ومع تزايد التعقيدات في الملفّ السوري، في ظلّ غياب الحلّ السياسي وتواصل الصراع العسكري على امتداد الجغرافيا السوريّة الممزّقة، وبعد أن صارت البلاد مسرحًا لموسكو لاستعراض القوّة طمعًا في استعادة دورها الدولي بوصفها قطبًا عالميًا، واستخدام الأرض السوريّة وما عليها حقل تجارب لتحسين أداء أسلحتها الفتاكة، وجعلها معرضًا دائمًا لبيع أسلحتها الجديدة، فضلًا عن انسداد أفق الحلّ السياسي وتكاثر الدول المتداخلة في الشأن الداخلي السوريّ، إذ يقبع رأس النظام تحت الحماية الروسيّة والإيرانيّة، وتتبع المعارضة السوريّة، بل المعارضات، لحكومات إقليميّة دوليّة، ما يؤكّد عجزها عن اتّخاذ قرار سياسي موحّد بلا وصاية خارجيّة، بالتزامن مع عدم تحقيق اللجنة الدستوريّة أيّ تقدّم ملموس على الأرض، وإبقاء القرار الأممي 2254، القاضي بتشكيل هيئة حكم انتقاليّة في سورية (صدر عن مجلس الأمن الدولي في 2015)، مجمّدًا بفعل التدخّلات الخارجيّة، والتلاعب الأسدي الروسي في المحافل الدوليّة، وكذلك انتشار أنباء عن تشكيل (مجلس عسكري انتقالي) مشترك بين النظام والمعارضة، بوصفه حلًا بديلًا، وأمام غياب خريطة طريق وبرنامج تنفيذي وآليّات واضحة، وضمانات دوليّة ملزمة للوصول إلى حلّ يقبل به الشعب السوري الثائر؛ تفشّت في صفوف السوريّين حالة من اليأس الشعبي العامّ، من إمكانيّة إصلاح النظام، والتخلّص من الاستبداد والفساد عن طريق التغيير السلمي الديمقراطي المتدرّج، ومع هذا كلّه، يواصل مركز حرمون للدراسات المعاصرة، والثورة دخلت عامها الحادي عشر، الملفّ الخاصّ بسيناريوهات الحلّ في سورية، في ظلّ فشل العمليّة السياسيّة والتحضير للانتخابات الرئاسيّة التي يحضر لها الروس ورأس النظام في دمشق، فكان أن استضفنا في هذا الجزء عددًا من القيادات والناشطات والناشطين السياسيّين والخبراء الإستراتيجيّين والكتّاب والكاتبات، من مختلف الأجيال والمكوّنات السوريّة، بعد أن كنّا استضفنا في الجزء الأوّل نخبة من الكتّاب والمحلّلين السياسيّين السوريّين المنتشرين في أصقاع الأرض، بعد أن شتّتهم الإرهاب الأسدي المتحالف مع الاستبداد الديني، وذلك للوقوف على طروحاتهم ورؤاهم للحلّ الذي ينتظره السوريّون الذين ذاقوا مرارة الحرب ووحشيّة نظام البراميل وحلفائه، طلبًا للخلاص من آل الأسد، ونيل الحرّيّة والكرامة، ونقل بلدهم من بلد يحكمه الاستبداد إلى بلد ديمقراطي تعدّدي.

هادي البحرة: الإستراتيجيّات المطروحة تصبّ في غير المصالح الوطنيّة السوريّة

عندما نريد استشراف المستقبل بصورة علميّة مقبولة، لا بدّ من قراءة الواقع كما هو وتثبيت بعض النقاط الأساسيّة، من المؤكّد أنّ كلّ الأسباب التي دعت الشعب السوري للثورة ما زالت قائمة، لا بل ازدادت عمقًا وتنوّعًا وشدّة، حيث باتت آثارها تشمل الغالبيّة العظمى من أطياف الشعب السوري، وتعمّقت العلاقة العضويّة الوجوديّة بين أطراف التحالف السري لقوى الاستبداد والفساد والإرهاب، الأوّل يبرّر وجوده واستبداده بالثالث الذي صنعه وغذّاه، والثالث يبرّر وجوده باستمرار وجود واستبداد الأوّل، أمّا الحبل السري بينهما فهو الفساد الذي بات يموّل استمراريّة كلّ منهما، على حساب قوت الشعب ومستقبله ومعاناته.

لقد افترض النظام الاستبدادي أنّ بإمكانه تغييب الثورة السوريّة وقواها الوطنيّة وتطلّعات الشعب المشروعة للكرامة والحرّيّة والعدالة والديمقراطيّة، عبر تشتيت قوى الثورة والمعارضة، وطمسها بالسواد والتطرّف، وتجريدها من الاعتراف الدولي بها كممثّل للشعب السوري، مقابل النظام، في العمليّة السياسيّة التي تيسرها الأمم المتّحدة في جنيف، فهذه القرارات الأمميّة والعمليّة السياسيّة الناتجة عنها هي ما تبقي الصراع حيًا بصيغته الحقيقة، ثورة شعب يناضل من أجل استرداد حقوقه الإنسانيّة والسياسيّة والدستوريّة والقانونيّة، من نظام حكم مستبدّ ودكتاتوري، أجرم بحقِّ شعبه، ولا يمكن تغيير هذه الصيغة إلّا عبر إعاقة وتعطيل العمليّة السياسيّة، مع إفقاد الشعب للتمثيل السياسي، وصولًا إلى إعلان وفاتها للتهرّب الكامل من تنفيذ قرارات مجلس الأمن.

من هذا المنطلق، عمل النظام وداعموه على محاولة خلق الظروف لتحقيق انطباع يحدُّ من خيارات المجتمع الدولي، بين شيطان الإرهاب وشيطان الاستبداد، وهم على يقين بأنّه سيختار الثاني، عملًا بالمثل القائل بأنّ “الشيطان الذي تعرفه أفضل من الذي لا تعرفه”. إلّا أنّ هذه الجهود، وإن حقّقت بعض النجاح في الماضي، ممّا أدّى إلى تبدل السياسات الدوليّة من دعم الحراك العسكري إلى توازع النفوذ والتدخل العسكري الدولي والإقليمي المباشر والعلني، وبات الملفّ العسكري وقرار السلم والحرب خارج سيطرة الأطراف السوريّة من قوى الثورة ومن النظام؛ فإنّها حتّى اللحظة لم تتمكّن من إنهاء الثورة ولا تغييب مطالب الشعب وتطلّعاته، ولا من الاستفراد بالعمليّة السياسيّة وتحويرها وفق رؤيتهم.

على الصعيد العسكري، لا توجد اتّفاقية وقف إطلاق نار شامل ومستدام في سورية، فكلّ التفاهمات الموقّعة هي مؤقّتة، ولذلك لا يوجد استقرار، وكلّ تلك التفاهمات عرضة للانهيار في أيّ وقت. وجميع الأطراف تترقّب التوجّهات الأميركيّة الجديدة: هل ستستمرّ في توجّهات الإدارة السابقة، بما يلغي أيّ احتمال لتحقيق أيّ حسم عسكري لصالح أيّ طرف كان، وهذا يزيد فرص التوصّل إلى اتّفاق لتحقيق وقف إطلاق نار شامل، أم أنها ستتّجه نحو تخفيض الوجود العسكري المباشر أو الانسحاب، ممّا سيفتح المجال لكلّ طرف من الأطراف الأجنبيّة بأن يحاول تنسيق ذلك الانسحاب مع الطرف الأميركي لملء الفراغ لصالحه، ومن المستبعد قيام الولايات المتّحدة بالانسحاب عسكريًّا، دون اتّفاق وترتيب وضمانات مع تركيا أو مع روسيا أو مع كليهما، بما يضمن عدم استفراد إحداها بالنفوذ في شمال وشرق سورية، ولا بالإمساك بكامل مفاتيح الحلّ السياسي وتجاوز مصالحها ومصالح حلفائها.

إنّ كلّ القوى العسكريّة الأجنبيّة الموجودة داخل سورية تتخوّف من تحوّل الأوضاع في سورية إلى مستنقع يغرقها في صراع غير محسوب النتائج، أو يعرّضها لصدام عسكري مباشر فيما بينها، وكلّ منها يحرص على عدم حدوث ذلك. نستطيع تلخيص إستراتيجيّة القوّتين الدوليّتين الكبريين في سورية بالتالي: بالنسبة إلى الولايات المتّحدة فهي تعتبر أنّ ما وصلت إليه الأمور في سورية هو نتيجة السياسات الروسيّة، ولذلك على روسيا تحمّل عبء إيجاد الحلّ من منطلق المثل الأميركي “You brook it،you own it”، وترجمته هي “أنت كسرتها، أنت تملكها”، أي ليس من واجب الولايات المتّحدة الأميركيّة إيجاد الحلول والمخارج لروسيا، إنّما على الأخيرة أن تبادر نحو إيجاد الظروف اللازمة لتحقيق الحلّ السياسي، بما يؤدّي إلى تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254(2015)، وفق التفسير والمفهوم الدولي له، فالولايات المتّحدة لا ترى أنّها تحت ضغط من أيّ نوع أو وجود مصالح مباشرة لها في سورية، لترفع من مستوى تدخلها العسكري، فهي تكتفي حاليًّا بوجودها العسكري المباشر الصغير والمحدود، مع قدراتها الجوية والصاروخية من بضعة قواعد لها في المنطقة، ومن أسطولها البحري، والاستمرار في سياسة العقوبات الاقتصاديّة، وضمان عدم إعادة تدوير النظام دبلوماسيًّا، وتفعيل وسائل دوليّة للمساءلة والمحاسبة عن جرائم الحرب التي ارتُكبت في سورية وعدم السماح بأيّ تمويل لعمليّات إعادة الإعمار، وهذا يعوق أي جهد لفرض حلّ سياسي وفق المقاسات الروسيّة الداعمة لاستمرار النظام، ويجعل الإبقاء على الأوضاع الحاليّة في سورية مجمّدة بتكلفة اقتصاديّة باهظة لن ترغب روسيا في تحمّلها، ولن يكون بالإمكان تحقيق الأمن والاستقرار المستدامين.

روسيا ترغب في حلٍّ سياسي يُبقي النظام، بحدّ أدنى من التنازلات التجميليّة بأسرع وقت ممكن، فبذلت جهودها بأقصى ما تملك من إمكانات لإعادة تدوير النظام دبلوماسيًّا، ودفع الدول للمساهمة في تمويل عمليّات إعادة الإعمار عبر استغلال قضيّة عودة النازحين واللاجئين إلى أماكن سكنهم الأصليّة، ومنحت النظام التغطية السياسيّة اللازمة في مجلس الأمن في موافقتها الضمنيّة على تعطيله للعمليّة السياسيّة في جنيف، ودعمها لإجراء الانتخابات الرئاسيّة اللاشرعيّة والمخالفة لقرار مجلس الأمن رقم 2254(2015)، هذه الانتخابات إن تمّت فستكون كسابقتها التي جرت في العام 2014 التي أودت بسورية إلى الأوضاع الحاليّة.

إنّ كلّ هذه الجهود لم تحرز أيّ تقدّم ذي قيمة، فالرسائل التي صدرت عن جلسات مجلس الأمن الأخيرة وعن مؤتمر بروكسل، كانت جليّة وعادت بروسيا إلى المربع الأوّل الذي يصطدم بمطالبة المجتمع الدولي بضرورة التقدّم الفعلي في العمليّة السياسيّة، واشتراطه بدء تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254 (2015) قبل رفع العقوبات أو الانخراط بتمويل أعمال إعادة الإعمار.

مجدّدًا، يستخدم النظام سياسات منهجية لمضاعفة معاناة الشعب، وتقوم روسيا  بإنذار المجتمع الدولي  بقرب انهيار مؤسّسات الدولة السوريّة، وحدوث الفوضى وخروج الأمور عن السيطرة، ممّا سيخلق موجات من اللاجئين باتّجاه دول الإقليم وأوروبا، إن لم ترفع العقوبات عن النظام، وحمّلوا المجتمع الدولي تلك المسؤوليّة، بينما يرى المجتمع الدولي أنّ روسيا تملك أكبر قوّة عسكريّة في سورية يقع على كاهلها مسؤوليّة ضمان الوصول المستمرّ للمساعدات الإنسانيّة الدوليّة التي تقدّر قيمتها ببلايين الدولارات دون عوائق إلى كلّ السوريّين وفي المناطق كافّة، دون إملاءات حكومة النظام على منظمات المجتمع المدني التي تؤدّي إلى حرمان قسم كبير من الشعب منها، كما أنّ انهيار مؤسّسات الدولة والفوضى التي يهدّدون بحدوثها ستكون روسيا هي أوّل من سيتأثّر بها، ومن سيترتب عليها حمل الأعباء المترتبة عنها. بالتالي سياسة شفير الهاوية التي اتبعت سابقًا باستخدام الإرهاب، وتُتبع الآن باستخدام العقوبات للتخويف من الانهيار، لن تعطي أكلها ولن تؤدّي إلى تبدل السياسات الدوليّة، فكلّ ما سينتج عنها هو المزيد من تعطيل العمليّة السياسيّة وإطالة أمد معاناة الشعب السوري وتعريض ما تبقى من كيان الدولة للتآكل، وسيضع ذلك روسيا في موقع لم ترغب في أن تجد نفسها فيه. 

لطالما لعب النظام على عامل الزمن للخروج من أزماته، إلّا أنّ الزمن هذه المرّة لا يخدم مصالحه، وإنّ إعاقة العمليّة السياسيّة وإطالة أمدها لتمرير الانتخابات الرئاسيّة اللاشرعيّة المزعومة سيزيد أزمته تأزمًا، وتأمله بجني مكاسب محتملة من المفاوضات الخاصّة بإعادة تفعيل الاتّفاق النووي الإيراني هو أمل ضعيف، إن لم نقل هو معدوم، في ظلّ الموقفين التفاوضيّين الأميركي والإيراني، والذي يرجّح عدم إعادة التفاوض على بنود الاتّفاق بقدر التركيز على إعادة تجديده كما كان. وإن أخذنا في الاعتبار توتّر العلاقات الروسيّة – الأميركيّة، والصينيّة – الأميركيّة، فليس من مصلحة كليهما (روسيا والصين) إبقاء نقاط توتّر ثانويّة، لا سيّما إن كانت هذه النقاط تحمل مخاطر تورّط إحداهما في أعباء تستنزف مواردها سنوات طويلة، بينما لا تؤثّر على الطرف الأميركي ولا تشكّل عبئًا عليه، ولأن عنوان السياسات الصينيّة والروسيّة هو اعتماد الأمم المتّحدة وميثاقها وقراراتها كمرجعيّة دوليّة وعدم الانسياق لقبول السياسات الأميركيّة، كما يقولون، فالمخرج الوحيد الممكن في سورية هو عبر تطبيق قرار مجلس الأمن رقم 2254(2015) الذي وافقت عليه الدول دائمة العضويّة في مجلس الأمن، نصًّا وروحًا وفق تراتبيّته، ليس وفق القراءات التي تحرف نصّه، كما سمعناها خلال الأيّام القليلة الماضية.

في ظلّ هذه القراءة، لا يمكن للشعب السوري ولقوى الثورة والمعارضة أن تقف موقف المنتظر لحين تبلور السياسات الدوليّة، فهناك كثير من المهمّات الواجب إتمامها للمساهمة في بلورة التفاهمات الدوليّة والإقليميّة بما يخدم مصالحنا الوطنيّة، وفي تسريع التوصّل إلى تلك التفاهمات، يجب البقاء في دائرة الفاعلين لا المنفعلين، والقدرة على الفعل ترتبط بمدى بنائنا لقوانا الذاتيّة، ويجب التركيز على إصلاح الأخطاء التي تسببت في كثير منها سياسات النظام، وهذا يقتضي السير بعكس سياسات النظام التي اتّبعها ضدّ الشعب والثورة التي كانت تنطلق من مفهوم “فرّق تسُد”، فعمل على زرع الكراهية والحقد والشكّ بين السوريّين لجعل بعضهم عدوًا لبعض، وقام بتوظيف أكبر الموارد لترسيخها، ويجب الخروج من هذا الفخ الذي رسمه وخطّط له النظام، كما يجب الانتقال نحو العمل المنظّم الذي يعتمد على توزيع المهامّ والأعباء والتنسيق في الأعمال بما يؤدّي إلى تكاملها بين التنظيمات والأحزاب السياسيّة ومنظمات المجتمع المدني والحقوقيّة، داخل سورية وخارجها، كلٌّ في مجاله واختصاصه وبحجم موارده وقدراته، لتصبّ نتائج عمل الجميع في صالح إنجاز الكمّ الأكبر من هذه المهامّ لتحقيق الأهداف التي قامت الثورة من أجلها، لتحقيقها بأسرع وقت ممكن، ويجب نسيان وهم الحزب الواحد أو الجسم الواحد، وهدر جهود الجميع لمحاولة تشكيله، فهو سراب لا وجود له، يجب الاعتراف بتنوّع القوى الثوريّة والسياسيّة والمجتمعيّة، فهذا التنوّع هو ما يميّزها عن نظام اللون الواحد والفرد القائد الملهم، وهو أهمّ مصادر قوّتها إن تحوّلت من سياسة الإلغاء والإقصاء والتنافر والانغلاق، إلى سياسة الانفتاح والتنسيق والتكامل، ليتحوّل تركيزها من هدم ما أنجزه الآخر وتدميره، إلى التكامل معه، وهنا يأتي دور الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السوريّة، ليقوم بدور المنسق بين هذه القوى الثوريّة والتنظيمات السياسيّة والمجتمعيّة وليس البديل عنها، وهذا يقتضي تحوّل هيكليّته التنظيميّة من هيكليّة هرميّة إلى هيكليّة شبكيّة، تتّسع لمساهمة الجميع في تحمّل الأعباء وإنجاز المهامّ وتحقيق الأهداف، وفق خطّة عمل مشتركة تساهم كلّ من هذه القوى والتنظيمات بوضع جزء منها، وبالرغم من الخلافات الأيدولوجيّة فإنّ الجميع متّفق على ضرورة تحقيق الانتقال السياسي، من نظام الاستبداد والإجرام والفساد، إلى نظام ديمقراطي قائم على التعدّدية السياسيّة والتداول السلمي للسلطة، والفصل المتوازن بين السلطات واستقلال القضاء وسيادة القانون، الجميع يريد تحقيق العدالة، ودولة المواطنة المتساوية، هناك الكثير ممّا يجمع السوريّين والقليل من النقاط الخلافيّة التي لن يعجزوا عن التوافق عليها. إنّ تحديد الإطار الأوسع من التفاهمات يؤدّي إلى تحديد أدقّ للمهامّ الواجب إنجازها وتوزيعها على القوى والتنظيمات والمؤسّسات التي تكون سندًا لبعضها البعض. إلّا أنّ تحقيق كلّ ذلك يقتضي إعادة صياغة الصراع، ليكون بين الشعب ونظام الإجرام والاستبداد الدكتاتوري، وهذا يتطلّب صياغة سليمة وواضحة للخطاب الإعلامي، وإعادة توجيهه لجميع السوريّين والسوريّات وللمجتمع الدولي بالتركيز على رؤيتنا وما نسعى لتحقيقه من تطلّعات مشروعة، وليس مبنيًا على المظلوميّة التي بات القاصي والداني يعلم بها، لكنّه يعلم القليل أو يملك رؤية ضبابيّة عن من نحن وما نريد تحقيقه، خطاب يطمئن السوريّين، ويبني الجسور بين مكوّنات وأطياف الشعب السوري التي باتت تعاني جميعها نتائج سياسات النظام، ليكون كلّ طيف من أطياف ومكوّنات الشعب السوري لبنة أساسيّة لا يكتمل دونه بناء سورية المستقبل، هذا الخطاب الجامع الذي من الممكن أن يجتمع عليه السوريّين بغالبيّتهم العظمى، هو الخطاب الذي يطمئن المجتمع الدولي حول توجّهات الشعب السوري لدولته المستقبليّة.

أما على الصعيد السياسي، عربيًّا، فيجب ألّا نهمّش الدور العربي فهو محيطنا الطبيعي، وعلينا العمل على تعزيزه وضمان مصالحه التي تتلاقى مع مصالحنا الوطنيّة، والعمل على بناء الجسور لا تعميق الهوّة، علينا أن نطمئنهم بأنّ مصالحهم الوطنيّة هي في أمان وضمن رؤيتنا وتوجّهاتنا، كما نعتقد أن تكون مكانة مصالحنا الوطنيّة لديهم. إقليميًّا، يجب أن نضمن المصالح الوطنيّة لدول الإقليم، لا سيّما الدول الداعمة لتطلّعات شعبنا، وأهمّها تركيا، بما يتلاقى مع مصالحنا الوطنيّة، وأن نزيل مخاوفها الأمنيّة ونقدّم الضمانات في سبيل ذلك، وننسج أفضل العلاقات معها. دوليًّا، يجب العمل على تعزيز شراكاتنا مع الدول التي تتلاقى مصالحنا الوطنيّة مع مصالحها بالحدِّ الأقصى. وكمبدأ عامّ السعي بأقصى جهد لتحييد الملفّ السوري عن الملفّات الخلافيّة بين الدول، وجعله في المنطقة الرماديّة التي يتلاقوا فيها على دعم تطلّعات الشعب السوري. ويجب علينا أن نعلم أنّ في السياسة لا يوجد صديق بالمطلق ولا عدو بالمطلق، وإنّما هناك تصنيف نسبي لكليهما، فمن كانت مواقفه معادية لتطلّعاتنا ومواقفنا بنسبة ثمانين بالمئة، واستطعنا تغييرها لتتوافق مع تطلّعاتنا ومواقفنا بنسبة خمسين بالمئة، فهذا يعدّ مكسبًا لنا، ومن هو صديق لنا بنسبة سبعين بالمئة، واستطعنا رفع نسبة صداقته إلى ثمانين بالمئة، فهذا ترسيخ للصداقة. بالتالي يجب السعي الدائم للتواصل مع الدول وعلى أوسع نطاق ممكن، لحشد التأييد لتطلّعات الشعب السوري.

في ما يخصّ العمليّة السياسيّة، وفي ظلّ تباطؤ المجتمع الدولي لا سيّما الدول ذات العلاقة بالمأساة السوريّة للوصول إلى توافقات لتحقيق الحلّ السياسي، الذي يسعى النظام بكلّ ما يملك للتهرّب منه والقضاء عليه، ليحوّل المفاوضات إلى عمليّة تفاوضيّة أمنيّة وعسكريّة بينه وبين الدول، لا بدّ من إبقاء العمليّة السياسيّة حيّة، كونها هي ما يُبقي قرار مجلس الأمن رقم 2254 (2015) حيًّا، فهو ضمان إبقاء المطالب الإنسانيّة والدستوريّة والقانونيّة والسياسيّة للشعب حيّة، وهو ما يثبت أنّه لا شرعيّة لهذا النظام، ويضع خارطة طريق للحلّ السياسي. لقد مضى الكثير وبقي القليل، ولكنّه الأشق والأخطر، يجب على السوريّين الثبات وشقّ طريقهم باستمرار نضالهم السلمي ضدّ الاستبداد والفساد والإرهاب ولتحقيق الاستقلال واسترداد سيادتهم على كامل أراضي دولتهم.

د. سميرة مبيض: سورية المستقبل: الانطلاق من الواقع السوري نحو بناء سورية الحديثة

لا بدّ بداية من الإشارة إلى ما قد يغيب عن أذهاننا في قراءة المشهد السوري، وفي الحديث عن سيناريوهات الحلّ، وهو وضع هذا المشهد في سياق التغيّرات الإقليميّة، ومن ثمّ في سياق الديناميكيّة الزمنيّة والتغييرات العالميّة الآخذة بالتسارع اليوم، حيث حُدّدت ملامح منطقة الشرق الأوسط، منذ قرن من الزمن تقريبًا، بناء على نتاج الحروب العالميّة، وطوال هذه الفترة الزمنيّة، لم تصل المنطقة إلى حالة من الاستقرار المستدام في ظلّ الأطر التي وضعت ضمنها، بل لبثت في صراعات داخلية، بالرغم من الغطاء الخارجي الذي أظهرته النظم المركزيّة والشموليّة المتحكّمة في المنطقة بمقدرتها على (حفظ الأمن) لكن واقع المجتمعات داخليًّا كان في تقهقر مستمرّ، وكان مولّدًا لتفكّك متزايد، ومُنشئًا لتيارات راديكاليّة على محاور عدّة فرضتها القوالب السياسيّة المؤطّرة للمجتمع.

من الحتمي أن يفرض التغيير نفسه في مثل هذه النظم، كجزء من مسار تطوّر الإنسانيّة عمومًا، ومع تراكم الأهوال التي أصابت المجتمعات في هذه المناطق، وتناقضها الهائل مع ما تتقدّم به وإليه البشريّة كلّ يوم، وبالرغم من صعوبة مسار التغيير الناجمة بدورها عن طول فترة الجمود والتراكمات المجتمعيّة السلبيّة، فإنّه مسار انطلق ووجد أرضيّة خصبة لاستقباله في دول المنطقة ومنها سورية. وعلى الرغم من المتاهة الطويلة التي دارت بها الثورة السوريّة على مدى عقد من الزمن، فإنّ هناك مفاتيح عديدة فرضت نفسها كجزء إلزامي من سيناريوهات الحلّ المستقبلي، ومن أهمّها:

    – بناء الدولة السوريّة الحديثة وفق عقد اجتماعي تأسيسي أصيل وغير مشتقّ من الحالة السابقة. 

    – بناء الهويّة السوريّة وفق أسس معرفيّة سليمة، بالانطلاق من واقع الشعب السوري، هويّة تعدّدية القوميّات والمذاهب والثقافات والإثنيّات ذات ارتباط تاريخي وجغرافي بحضارات عديدة، وهو ما سعت لتغييبه الحالة الشموليّة السابقة.

    – بناء نظام حكم جديد قائم على أسس اللامركزيّة ذات الصلاحيّات الواسعة في سورية، تحدّد وفق أسس جغرافيّة، وتضمن التناغم الاجتماعي والقدرة على العيش المشترك بين مختلف البنى المجتمعيّة في سورية.

    – بناء حالة مدنيّة حياديّة تجاه الأديان والقوميّات والأيديولوجيّات، تكون قادرة على تحقيق التنمية والتقدّم والعدالة الاجتماعيّة على كل الصعد، وتضمن إنهاء وعدم إعادة إنتاج أيّ سلطة قمعيّة تحت أيّ مسمّى.

    – إعادة تعريف العلاقة بين سورية والعالم، وفق أسس من الانفتاح والقدرة على بناء السلام العادل والاستفادة منه.

ترسم هذه النقاط السابقة المسار الزمني المتوسط المدى للمشهد السوري، في حين يتّسم الوضع الراهن بفشل العمليّة السياسيّة وبسعي الأسد لإجراء انتخابات رئاسيّة صوريّة، لإعادة تأهيل نفسه، بالتواطؤ مع التيارات التي دعمته في قمع الثورة السوريّة، وهو واقع يفضي إلى انقسام سياسي واضح وشبه نهائي بين مختلف المناطق السوريّة، بين مناطق خاضعة لسيطرة الأسد وماضية في موالاته، ومناطق خارجة عن سيطرته ورافضة لاستمراريّته، سواء في الشمال أو في الجنوب السوري، والواقعة تحت سيطرة قوى نفوذ مختلفة أخرى. يقود ذلك إلى غياب الشرعيّة لأيِّ انتخابات قد يجريها نظام الأسد خارج المناطق التي يسيطر عليها، وإلى انقطاع بين العمليّة السياسيّة التي تجري برعاية دوليّة، والتي يعتبر نظام الأسد جزءًا منها وبين مجريات الأرض ممّا يفسر الجزء الأكبر من جمود العمليّة السياسيّة اليوم.

من البديهي والمتوقّع أن ينتهي الواقع بفرض نفسه على العمليّة السياسيّة، وأن تحلّ مسارات قائمة على إيجاد حلول تستند إلى متطلّبات كلّ من المناطق السوريّة في المرحلة الحاليّة، وبشكلٍ خاصّ يمكننا تمييز ثلاث مناطق: منطقة شمال سورية، المنطقة الوسطى، والمنطقة الجنوبيّة. حيث تتّسم هذه المناطق بوجود قوى نفوذ مختلفة، وبوجود تيارات سياسيّة سوريّة تتبنى رؤى مختلفة في كلّ من هذه المناطق وبوجود بنى مجتمعيّة متمايزة ترتبط بكلّ من هذه المناطق.

في ظلّ هذه الأوضاع، يمكننا الحديث عن سيناريوهات حلول في سورية، وفق مرحلتين زمنتين ووفق مستويين جغرافيّين: المرحلة الأولى في المدى الزمني القريب تعتمد على إيجاد حلول ضمن القطاعات الجغرافيّة المختلفة على الأراضي السوريّة، ووفق خصوصيّة الأوضاع السياسيّة والعسكريّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة في كلّ منها. والمرحلة الثانية في المدى الزمني المتوسط، وتعتمد على إعادة بناء الدولة السوريّة الحديثة بما يتوافق مع واقع الشعب السوري ومع احتياجاته، ليُحقّق النهوض والتقدّم المطلوب، ومع ما يُحقّق العدالة والمواطنة المتساوية بالمطلق بين جميع السوريّين في إطار سورية كدولة واحدة ووطن نهائي لجميع أبنائها.

د. سمير العبد الله: الجمود هو السيناريو المتوقّع في المدى القريب

هناك كثير من السيناريوهات التي يتمّ طرحها لتكون حلًّا في سورية، لكن حتّى الآن لم تثبت فاعليّة وإمكانيّة نجاح أيّ منها، فالقوى الفاعلة في الملفّ السوري حاليًّا هي التي تحدّد مسارات الحلّ السياسي كجنيف وآستانا وسوتشي، وحتّى مسار اللجنة الدستوريّة، التي لم ينتج عنها أيّ شيء ملموس.

وكانت أهمّ الأسباب لفشل الحلول السياسيّة التي تمّ طرحها، تعنّت النظام السوري، ومشكلة اللاجئين والمهجّرين والمعتقلين والتغيير الديموغرافي، والوجود العسكري الأجنبي في سورية، ومشكلة الفصائل المسلّحة، وفوضى السلاح على المستوى المحلّي، كذلك أمن إسرائيل والأطماع الإيرانيّة، وسياسات أميركا وبعض الدول الأوروبيّة الداعمة لبعض الجماعات الانفصاليّة، والسيطرة على المناطق الغنيّة بسورية. وكانت المعضلة الأكبر أنّ النظام وروسيا يعاملون كلّ شخص معارض وفصائل المعارضة كتنظيمات “إرهابيّة”، وأنّه يجب القضاء على تلك التنظيمات، وأن على المعارضين إجراء مصالحة مع النظام، وإعادة سيطرة النظام على كلّ سورية، هذا في ظلّ رفض تلك الفصائل المعارضة التعامل مع النظام السوري أو أن تكون شريكة معه بأيّ حلّ سياسي، في ظلّ بقاء رأس النظام السوري والمقربين منه بمناصبهم.

من تلك السيناريوهات المطروحة للحلّ السياسي حاليًّا:

 سيناريو يطرحه النظام السوري وحليفاه الروسي والإيراني، ويقوم على بقاء رأس النظام، وإجراء انتخابات في الأشهر المقبلة، وهي التي تسعى روسيا لتسويقها ونيل اعتراف بها، وهذا ما تمّ أثناء زيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لبعض دول الخليج، وعقب إجراء تلك الانتخابات، سيفوز بشار الأسد بالتأكيد، في ظلّ الأوضاع الحاليّة، ثمّ ربّما يتمّ تعديل بعض المواد الدستوريّة، ويقوم رأس النظام بإصدار عفو عن المطلوبين، والسعي بعد ذلك لإعادة تطبيع علاقات النظام مع المجتمع الدولي، والبدء بإعادة الإعمار، التي تسعى روسيا لأن تسهم فيها الدول الخليجيّة بشكلٍ كبير، لكن هذا السيناريو يجابه برفض دولي كبير، لأنّه لا يتمّ وفق القرارات الدوليّة، ولن يشكّل حلًّا للأزمة السوريّة، ولن يؤدّي إلى عودة اللاجئين واستقرار الوضع بسورية، ولن يقبل به السوريّون المعارضون والدول المؤيدة للمعارضة السوريّة. فالنظام يريد الهرب إلى الأمام من محاولة تغييره أو منعه من الترشح، في حال تمكّن اللجنة الدستوريّة من وضع دستور جديد ربّما يحرمه من الترشح لمنصب الرئاسة، وهذا سيناريو يتوقعه النظام في ظلّ المفاوضات الروسيّة العربيّة، أو الوصول إلى توافق روسي أميركيّ حول سورية. أمّا السيناريو الذي تطرحه المعارضة الممثّلة بالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السوريّة، وهو أحد مكوّنات المعارضة السوريّة، فهو يقوم على إسقاط النظام، وتطبيق القرار الأممي 2254، على الرغم من تماهي الائتلاف الوطني مع روسيا، واشتراكه في المسارات التي أنشأتها (آستانا وسوتشي) لتكون بديلًا عن مسار جنيف.

وهناك سعي في الفترة الأخيرة لخلق مسارات جديدة، وإن لم تتّضح طبيعتها حتّى الآن، مع وجود رغبة في أن يكون هناك دور عربيّ أكثر فاعليّة، ومنها مسار الدوحة الذي شاركت فيه كلّ من تركيا وقطر وروسيا، والذي أكّد مجموعة من القضايا، منها وحدة سورية ومحاربة الأجندة الانفصاليّة، وزيادة المساعدات الإنسانيّة للشعب السوري، وسيتبيّن لنا مدى جدّيّة روسيا في هذا المسار، في جلسة اللجنة الدستوريّة القادمة، وعند انتهاء القرار الدولي الحالي الذي يسمح بعبور المساعدات الإنسانيّة عبر معبر واحد إلى مناطق المعارضة، وهذا ما دفع روسيا إلى السعي لفتح المعابر بين مناطق النظام ومناطق سيطرة المعارضة، حتّى تدّعي بعد ذلك أن لا حاجة إلى معابر مع مناطق المعارضة، وأن تمرّ المساعدات عبر مناطق سيطرة النظام، والمهمّ في هذا المسار هو استبعاد إيران كدولة ضامنة وشريكة بالحلّ السياسي في سورية. وظهرت كذلك سيناريوهات يتمّ طرحها إعلاميًّا، حتّى الآن، كالمجلس العسكري الانتقالي، أو مجلس عسكري/ مدني، لكن هذه السيناريوهات ما زالت إعلاميّة فقط، وفي حال توفر إجماع دولي عليها ربّما تكون فرصة لتجاوز الجمود الذي يعيشه المسار السياسي، وربّما يمكن تطبيق السيناريو الليبي، أي أن تسمّي الدول صاحبة النفوذ ممثّلين عن المناطق التي تحت نفوذها، ويتشكّل من خلالها مجلس حكم انتقالي بقرار من مجلس الأمن يشكّل فرصة للحلّ.

في ظلّ تلك السيناريوهات المتعدّدة، أعتقد أنّ الحلّ الأممي الذي يقوم على القرار 2254 ما زال هو الحلّ الأفضل، والحلّ القابل للتطبيق، حيث يقوم على انتقال سياسي برعاية الأمم المتّحدة، استنادًا إلى “بيان جنيف” و”بيانات فيينا”، لكن في عهد المبعوث الدولي السابق ستيفان ديمستورا، تمّ تقسيم القرار الأممي إلى أربع سلال سنة 2017، وكان ديمستورا أقرب للرؤية الروسيّة، وعمل على حرف مسار القرار، فأصر على البدء بالسلة الثانية، التي تقوم على وضع دستور جديد لسورية، وأن تكون مسارًا منفصلًا عن بقية السلال، وعدم تقييد العمل بأيّ جدول زمني، وقد شارك ديمستورا في مسارات تفاوضيّة منفصلة عن مسار جنيف في آستانا وسوتشي، حيث حاولت روسيا إفراغ “بيان جنيف” من مضمونه، لكنّها فشلت حتّى الآن، على الرغم من اشتراك بعض فئات المعارضة بتلك المسارات. ومع كلّ ذلك، ما زال مسار جنيف هو المفضل من طرف أغلب المعارضين السوريّين، وخاصّة أنّه تحت إشراف الأمم المتّحدة وتشارك به العديد من الدول المؤيدة للثورة السوريّة، بخلاف مساري آستانا وسوتشي التي بها تركيا وحيدة، ومازالت روسيا تدرك أنّ أيّ تسوية سياسيّة يجب أن تنال موافقة الأمم المتّحدة والمجتمع الدولي في النهاية، لذلك ترغب بأن تحصل على أكبر دعم دولي قبل تطبيق أيّ سيناريو، وهذا الذي مازالت تعوّل عليه مؤسّسات المعارضة.

أما بالنسبة للموقف الأميركي، فبعد الانتخابات الأميركيّة وفوز جو بايدن؛ هناك حاليًّا شبه جمود بالتحركات السياسيّة لإيجاد حلول لقضايا المنطقة، بانتظار موقف واضح للإدارة الأميركيّة الجديدة من قضايا المنطقة، ومنها القضيّة السوريّة، والموقف من إيران، وطبيعة الإجراءات التي ستتخذها من الملفّ النووي الإيراني التي ستنعكس بصورة مباشرة على سياسات إيران بالمنطقة، ومنها سورية، وهذا ما دفع بعض الدول العربيّة التي حاولت روسيا إقناعها بتطبيع علاقاتها مع النظام السوري، إلى رفض المطالب الروسيّة. ومن المحتمل أن تكون هناك مؤتمرات عديدة في الفترات القادمة، للعمل على إيجاد حلول للأزمة السوريّة، وذلك في حال جدّيّة الإدارة الأميركيّة الجديدة بإيجاد حلّ، لكن ما يبدو حتّى الآن أنّ السياسة الأميركيّة لن تتغيّر بشكلٍ كبير تجاه سورية، وستكون امتدادًا للسياسات السابقة، وخاصّة في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما، بالرغم من كلّ ما يبديه المسؤولون الأميركيّون الجدد من تعاطف مع السوريّين، لكن ذلك لم يتعدّ نطاق التعاطف، وليس هناك خطوات جدّيّة حتّى الآن.

كلّ هذا في ظلّ الظروف الاقتصاديّة الصعبة التي تعيشها مناطق النظام، والسيطرة على قرار النظام من طرف الدول الداعمة له (إيران وروسيا)، وفشل المعارضة ومؤسّساتها في كسب تأييد شعبي كبير لها، وظهور كثير من المنصّات والتجمّعات التي ترفض احتكار مؤسّسة الائتلاف لقرار المعارضة. فالحرب والأزمة لن تستمرّ في سورية إلى ما لا نهاية، لكن الجمود ربّما هو السيناريو المتوقّع في المدى القريب، لكن لا مهرب من الحلّ السياسي، واستمرار التدخّلات الدوليّة والإقليميّة المتصارعة في سورية، وانسياق الأطراف السوريّة نحو إدامة الصراع هو ما يعقّد الوصول إلى تسوية سياسيّة، وعلى كلّ الأطراف السوريّة العمل ضمن إطار يتناول كلّ خيارات الحلّ السياسي لمستقبل سورية، والتعامل بطريقة واقعيّة وموضوعيّة، ليتجاوز الشعب السوري ما يعيشه من مأساة.

صباح الحلّاق: إستراتيجيّة بعيون نسويّة سوريّة أساسها العدالة للجميع

منذ أن واجه النظام السوري التظاهرات المدنيّة السلميّة، بكلّ آليّات القمع التي يملكها تاريخيًّا والتي استوردها من دول داعمة له مثل إيران، تغيّر مسار الثورة نحو التسليح والأسلمة، وبات تدخل الدول الإقليميّة واضحًا للعيان، وقد حرف ذلك ثورتنا عن أهدافها التي انطلقت من حناجر عشرات الآلاف من السوريّين والسوريّات في التظاهرات التي امتدّت إلى غالبيّة المدن والقرى السوريّة.

وتمّ تدخّل دول عظمى بالملفّ السوري تدخّلًا سافرًا مستخدمة حججًا لتغطية هذا التدخّل، ومنها حماية الحدود من الإرهاب، كتركيا، أو حماية الأكراد من قبل الولايات المتّحدة الأميركيّة وحماية إسرائيل في المنطقة الجنوبيّة، أو حماية المصالح الإستراتيجيّة والتوسّع في منطقتنا، كإيران، أو استعادة روسيا لمكانتها في العالم كدولة عظمى لديها امتدادات عسكريّة واقتصاديّة في سورية، إضافة إلى ميليشيات متنوّعة من دول عديدة وصولًا إلى وجود خمسة جيوش على أراضي سورية. وعلى ذلك؛ لم تبق أيّ إرادة لمعظم السوريّين والسوريّات في الوصول إلى حلّ سياسي عادل مبني على قرارات دوليّة، ويلبي مطامح الناس في الانتقال السياسي نحو دولة ديمقراطيّة يتمتع فيها الإنسان بحرّيّته وكرامته، بعد أكثر من خمسين عامًا من الاستبداد والدكتاتورية التي أدّت إلى كم الأفواه والتغييب والقتل والتشريد لملايين السوريّين والسوريّات.

ما العمل؟ هذا هو الهمّ الأساسي والرئيس لدى غالبيّة العاملين/ات بالشأن السياسي والمدني، عبر طرح أسئلة مفصليّة مبنيّة على دراسة واقع ما وصلنا إليه “بقلب حار وعقل بارد”، بعد عشر سنوات من انطلاقة الثورة متمسّكين بأحلامنا للأجيال قادمة. ونتساءل: هل نفقد الأمل في إمكانيّة استمرار النضال من أجل انتقال سورية لدولة المواطنة؟ إنّ الوضع المتردّي على المستوى السياسي الوطني والإقليمي والدولي، حيث باتت سوريّتنا أربع سوريّات جغرافيًّا، وتحت احتلالات أربعة وسلطات الأمر الواقع، يفقدنا الأمل في إمكانيّة استمرار النضال من أجل سيادة ووحدة سورية، إضافة إلى توسّع دائرة التعصّب الطائفي والقومي والمناطقي؛ وتراجع الحكومات المدّعية تمسّكها بحقوق الإنسان في الدفاع عن حقوقنا؛ وتحكم حكومات في أجندات معظم أطراف النزاع من النظام إلى المعارضة السياسيّة؛ وجمود المحادثات السياسيّة السوريّة بين أطراف النزاع لسنوات خلت؛ واستمرار النظام السوري في اللعب بالوقت في العمليّة الدستوريّة؛ وتراجع الأمم المتّحدة في مهامها بالملفّات الإنسانيّة وأوّلها ملف المعتقلين/ات والمفقودين/ات والمختطفين/ات وتركه بيد أمراء الحرب في آستانا؛ وتغيير في سياسات الدول العظمى تجاه قضيتنا، إذ لم تعد من أولويّاتها مثل السياسة الأميركيّة وبعض دول الاتّحاد الأوروبي؛ وازدياد حالات النزوح واللجوء نتيجة استمرار العمليّات العسكريّة وسوء الأوضاع الاقتصاديّة واستمرار السياسات الأمنيّة في معظم الجغرافيّات السوريّة، وليس لدى النظام فقط..

نعم، اللوحة سوداء من جميع الجوانب، وهذا يجعلنا أقرب إلى فقدان الأمل، لكننا بمراجعة تاريخيّة لتجارب دول عدّة مرّت بنزاعات مسلّحة وأهليّة واحتلالات، نجد أنّ الوضع في سورية، على قتامة المشهد، ليس بعيدًا عن هذه التجارب التي خاضتها شعوب هذه البلدان، ومن هنا تبدأ عقولنا بالعمل على وضع إستراتيجيات قصيرة وطويلة الأمد. إستراتيجيّات قصيرة المدى ذات بعد إستراتيجي طويل المدى، وهي حقّ السوريّين والسوريّات بالمشاركة في رسم خريطة التغيير المنشود، وذلك عبر عقد مؤتمرات وندوات وجلسات نقاش مستفيدين من إمكانيّة الوصول لمعظم السوريّين/ات عبر التقنيّات الإلكترونيّة، بحيث يتمّ لم شمل جميع المكوّنات السوريّة دون إقصاء أحد، كما جرى في تشكيل اللجنة الدستوريّة، وهذه الإستراتيجيّة تعزّز المبدأ المواطني في حقّ المشاركة.. إستراتيجيّة مصالح على المستوى الدولي، وهي حملات الضغط على صناع القرار بالملفّ السوري، وذلك بالاستفادة من كلّ المحافل الدوليّة، ووصول صوت السوريّين والسوريّات المطالب بالحلّ السياسي وفق القرارات الدوليّة، وتغيير الخطاب باتّجاه مصالح هذه الدول. حتمًا هناك من يقول إنّنا لم نقصّر في ذلك، وأنا أعلم، لكن قطرات الماء المتتالية تحفر الصخر، ونحن نعلم أنّ كلّ دولة متدخّلة بملفّنا لها مصالح مختلفة عن غيرها، ولذلك الخطاب سوف يتغيّر معها، وهذا بالطبع ليس تنازلًا عن مبادئنا، وإنّما تفاوضًا محرجًا مع الخصم، وفق ادّعاءاته بدعم سورية وأهلها.

ختامًا؛ هناك إستراتيجيّة بعيون نسويّة سوريّة أساسها العدالة للجميع، وهذه الإستراتيجيّة ترى أنّ لغة الدفاع عن حقوق وحرّيّات الإنسان يجب أن تكون شاملة لكلّ السوريّين والسوريّات، بغض النظر عن المواقف السياسيّة والأيديولوجيّة والقوميّة والمناطقيّة والدينيّة والمذهبيّة والجنس… بحيث تكون الرسالة أنّ هذه الحقوق والحرّيّات هي من حقّ ومصلحة الجميع دون استثناء، وبذلك يكون هذا الخطاب مقبولًا، ومثالنا هنا هو العدالة للجميع. برؤية موضوعيّة للحال الذي وصلنا إليه اليوم، نحن أمام جدار يشبه جدار برلين يعوق أيّ حلّ لقضيتنا، والحلّ مرهون بيد الدول ذات العلاقة بالملفّ السوري، وما أكثرها! لا كما تدّعي هذه الدول والأمم المتّحدة بأنّ هذا شأن سوري، والسوريّون/ات هم من يقرّر! ولن نستيقظ ذات يوم قريب ونرى اتّفاق هذه القوى لمصلحة السوريّين والسوريّات، إذ إن اقتسام الكعكة بينهم لم يكتمل بعد، وربّما سيأخذ وقتًا طويلًا تزداد فيه قتامة المشهد. ولكن هل ثمّة بقعة ضوء لإنهاء المأساة السوريّة على جميع أهل سورية؟ لا بدّ من ذلك، ولو بحلول لا تصل إلى طموحنا في المستقبل القريب. فقد هُدم جدار برلين.

د. خلدون النبواني: خطر ضياع سورية كدولة هو السيناريو الأقرب لنا

بواقعيّة، والواقع أسود، مع الأسف، إنّ السوريّين على اختلاف مواقعهم: مع الثورة، مع النظام، رماديّين، إلخ، هم جميعهم خارج اللعبة السياسيّة الحاليّة. المسألة السوريّة اليوم لا شيء سوريًا فيها سوى الاسم والضحايا، وأوّل الضحايا هو البلد. هناك قوى إقليميّة ودوليّة منخرطة بقوّة في الصراع على سورية، واستثمرت كثيرًا في هذه الحرب، التي لن تنتهي إلّا بتوافق هذه القوى أو بتصفية بعضها لبعضها الآخر. إذن لا يشي الواقع بمستقبل قريب للأزمة السوريّة حتّى ولو بدأت منذ الغد ملامح حلّ سياسي ترتسم في الأفق. ولكن هذه الرؤية المغرقة في سوداويّتها تكتفي بمراقبة الحاضر، بينما هذا الشلل السوري سيتعافى في المستقبل البعيد. ما أقصده أنّ ملامح الحلّ السوري ستكون بضمان القوى الخارجيّة المنخرطة في الصراع على سورية بمصالحها ومناطق نفوذها وتحكمها، ومن ثم ستعيش سورية من دون سيادة فعليّة حتّى بعد رحيل الأسد وسقوط نظامه بشكلٍ جزئي. على السوريّين أن يبدؤوا التحاور منذ اليوم، والانفتاح على بعضهم البعض، والتخلّص من عقيدة قتل الآخر وتكفيره دينيًّا أو سياسيًّا، فما هكذا يكون العقد الاجتماعي، عندما تكون هناك إرادة مشتركة للتعاون وتوازن في محصّلة القوى السياسيّة. على مثل هذا التوافق، يتوقّف مستقبل سورية والسوريّين، فإمّا الاستقلال والنهوض والبناء وإمّا استمرار الاقتتال السوري – السوري، وتقسيم سورية، إن لم يكن بحدود وفدراليّات، فبطوائف وتحزّبات تحصنها أبراج الكراهية والإقصاء.

بعد الحرب، ستكون سورية، بل هي منذ الآن، كحال ألمانيا بعد الحرب العالميّة الثانية، وأسوأ من حال لبنان بعد الحرب الأهليّة، أو حال العراق بعد دخول القوّات الأميركيّة. تتوقّف ردّة فعل السوريّين على النتيجة، فإمّا يحتذون -وفق ظروفهم وشروطهم- المسار الذي مشت به ألمانيا التي نفضت عبر سنوات طويلة آثار الحرب ثمّ توحّدت، وهي الآن القوّة الاقتصاديّة الأولى أوروبيًّا، وصارت مثالًا سياسيًّا ناجحًا تحسده معظم دول العالم المتقدّم، وإما أن يسيروا في طريق التدمير الذاتي الذي لم ينجح في الخروج من متاهته لبنان والعراق. ولأنّ حال العراق ولبنان أقرب لنا من حال ألمانيا، فإنّ خطر ضياع سورية كدولة وخطر ضياع حلم تأسيس نظام ديمقراطي مدني عادل هو السيناريو الأقرب لنا. ومن هنا تظهر خطورة الأمر، وبخاصّة أنّ الصراع السوري – السوري يؤكّد أنّنا إلى حدّ الآن -كسوريّين مشتّتين ومقسّمين وضائعين- نفتقر إلى الخبرة السياسيّة المتعلّقة بالإدارة والحكم وقبول الديمقراطيّة، ولا نملك الوعي القانوني والاجتماعي والقيمي للعيش كمواطني بلد واحد. لا شكّ في أنّ ذلك يعود إلى إخراج كلّ السوريّين من حقل الممارسة السياسيّة ومسح عقولهم بشكلٍ منهجي من قبل النظام الأسدي، على مدى خمسين عامًا، ولكنّ سنوات الثورة كشفت عن أُميِّة سياسيّة وعدم وجود قيادة قادرة على توحيد السوريّين.

قناعتي الشخصيّة أنّ مصالح القوى المتصارعة متّفقة -بالرغم من كلّ صراعاتها- على ضرورة بقاء الدولة السوريّة، وهذا شيء إيجابيّ جدًا بنظري، وسط كلّ هذا الركام. لكن علينا هنا أن نعيد لمفهوم الدولة معناه الإيجابي، بعد إزالة كلّ ذلك الصدأ الأسديّ الذي تراكم عليه. الدولة هي حجر الزاوية الذي تُبنى عليه سياسة بلد ما، وبدونه ينهار كلّ شيء. الدولة هي مؤسّسات وقوانين ممؤسّسة وليست نظامًا أو حكومة. الدولة نظام حكم قابل للتغيّر شعبيًّا ودستوريًّا، لكن لا يختزله نظام، وإنّما سلطات يتمّ تداولها سلميًّا في عمليّة يحكمها الدستور الذي يجب أن يقوم فعليًّا على إرادة الشعب مصدر شرعيّة السلطة أيّ سلطة وصاحب السيادة الحقيقيّة.

تاريخيًّا، الدولة كانت دائمًا موجودة، ولم يوجد عمليًّا مجتمع دون دولة إلّا في التنظيرات الطوباويّة لنظريّات الفوضويّين السياسيّين، وبعض التأويلات الماركسيّة التي انتهى تطبيقها إلى دول شموليّة قمعيّة. لكن قوّة الدولة تتناسب عكسًا مع وجود المجتمع المدني والفضاء العامّ، وفي الدكتاتوريّات تنتهي الدولة بالقضاء على المجتمع وغلق الفضاء العامّ بشكلٍ كلّي، وتحوّل الحكم إلى ملكيّة عائليّة، كما هو حال السلطات العربيّة.

ما الحلّ إذن؟ لا بدّ -برأيي- من الإبقاء على الدولة، وأن تكون الدولة قويّة بما يكفي بعد استبدال نظام الأسد، لتستطيع حماية القانون، الذي يجب أن يراعي مبادئ المواطنة والديمقراطيّة والعلمانيّة، ومن دونها لا يمكن إقامة ديمقراطيّة حقيقيّة في مجتمع متعدّد الأديان وغيبي، كالمجتمع السوريّ. لكن إذا كانت الدولة القويّة تنتهي إلى الاستبداد، فلا بدّ للشعب -ممثّلًا بالمجتمع المدني والتمثيل الديمقراطي- أن ينظم نفسه وينظم صفوفه ويفرض نفسه كقوّة حقيقيّة، تنافس مصالح الدولة كلّما انحرفت نحو الشموليّة والاستبداد. هنا يأتي دور السوريّين في تنظيم أنفسهم والتوافق على عقد اجتماعي والقبول بقواعد اللعبة الديمقراطيّة. بعد جيل أو جيلين، يصبح المجتمع المدني قادرًا على أن يضمن استمرار سيرورة العمل الديمقراطي، فيصبح التوازن بين الدولة والمجتمع المدني تحصيل حاصل، ويدرك الشعب أنّ مصلحته تتجسّد في دولة قويّة ونظام حكم جمهوري أو ديمقراطيّ فعلي، يضمن العدالة والمساواة. إذن على السوريّين تربية أنفسهم، منذ الآن، على الانفتاح على بعضهم البعض وقبول نتائج الديمقراطيّة، ويدرك أنّ العلمانيّة هي شرط استمرار الديمقراطيّة في بلدنا. عندما ينجح الشعب في حماية الديمقراطيّة وقيم المواطنة يُصبح هو الحاكم الفعلي، ويصبح هو الضامن للدولة وليس العكس. عندها فقط يستقلّ البلد فعليًّا ويتحرّر من هيمنة قوى الخارج على مُقَدّرات البلد، ويقرّر هو مصيره بنفسه. لكي يتحقّق ذلك لا بدّ للسوريّين أن يعوا أنّ ما يحتاج إليه البلد لكي ينهض أن يعملوا أيضًا على التنمية والإصلاح الاقتصادي والاستثمار بالعلم والثقافة والفنّ، والتخلّي عن وهم التسلّح والحرب التي لم تقم إلّا ضدّ السوريّين وعليهم. هكذا أحلم في سورية المستقبل، وأخشى عليها من كابوس لبنان والعراق الذي قطع البلاد بين طوائف وإثنيّات وملوك طوائف يمثّلون مصالح الخارج فقط ضد الوطن.

واحة الراهب: استعادة اللحمة الداخليّة لبناء عقد اجتماعي جديد

يجدر بنا الاعتراف بداية بتعثر مسار الثورة السوريّة، وعدم تمكّنها إلى الآن من تحقيق أهدافها وشعاراتها الأولى: حرّيّة، كرامة، ديمقراطيّة، الشعب السوري واحد، تخوين الطائفيّة، والشعار الأهمّ المرتبط حكمًا بالشعارات السابقة هو تحقيق السيادة والاستقلال، كشرط لا مناص منه لتحقيق شعاري الحرّيّة والكرامة. وكان قد رهنهما النظام بيد قوى الاستعمار القديم والحديث، ليضمن بقاء هيمنته عبر إجهاض حقّ شعبه بتحقيق تلك الشعارات ذاتها. وبالرغم من تمكّن قوى الثورة في البداية من السيطرة على سبعين بالمئة من الأراضي السوريّة، وبالرغم من أنّها كادت أن تنتصر لو أنّ شرط السيادة واستقلال القرار الثوري كان محقّقًا آنذاك، فإن عدم تجذّر الموقف الثوري تجاه هذا الشرط منع تقدّمها في دمشق وفي جبهة الساحل، وهما الجبهتان اللتان كانتا كفيلتين بحسم المعركة، لولا الارتهان لقرارات الخارج. وهذا ما كشف منذ بداية الثورة أنّ التفريط بثوابتها هو ما أدّى بها إلى انتكاسات متوالية؛ إذ تمّ اختراق الثورة عبر تسليحها القسري الناتج عن السماح باستفحال جرائم النظام بحقّ المتظاهرين العزل والسلميين، على مرأى ومسمع العالم أجمع المدّعي صداقته للشعب السوري، وإلى سيطرة الإرادة الخارجيّة المموّلة للتسليح، وتحكّمها في أطراف الصراع المتعدّدة ومصادرة قرارها السيادي، والعمل على تصعيد التطرّف الديني بعد عسكرة الثورة، ودفع الساحة إلى الانقسامات الداخليّة والارتهانات والتجاذبات للأطراف الخارجيّة أكثر. وقد برهنت جميعها أنّها غير معنيّة بانتصار ثورتنا.. بل على العكس من ذلك، إذ حتّى من اِدّعى صداقته للشعب السوري زيفًا، كالحليف الأميركي، غضّ الطرف عن استخدام النظام للسلاح الكيمياوي لإبادة شعبه، كخط أحمر ادّعاه الرئيس الأسبق باراك أوباما آنذاك لا يمكن للنظام تجاوزه! وعمل لتفريغ الثورة من محتواها المبدئي أيضًا، كما عمل على شرذمتها وتضييع بوصلتها عبر شراء الذمم، وعبر تسليح المتطرّفين على حساب الجيش الحرّ وأبناء الثورة الحقيقيّة، وعلى إدخال المال السياسي في لعبة فرز القيادات والممثّلين المزيّفين لقوى الثورة.

أظن أنّ سيناريوهات الحلّ المفترضة باتت تحتاج إلى العمل بنفس طويل وجهود أكثف، لرأب التصدعات المتعدّدة التي حصلت، في ظلّ فشل العمليّة السياسيّة والتحضير للانتخابات الرئاسيّة، ومحاولات الروس -بل العالم أجمع- تعويم نظام الأسد وإعادة تدويره، كما سبق لهم تعويم أمراء وزعماء الحرب الأهليّة في لبنان ليحكموه إلى يومنا هذا، بالرغم من تلطخ أيديهم بدماء شعبهم، وكاد هذا السيناريو أن يصبح حقيقة وهدفًا للقوى المتحكّمة بلعبة الصراع على سورية، لولا تجذّر الإيمان بثورتنا عند أغلب أبناء شعبنا من الثائرين الحقيقيّين، على الرغم من كلّ ما تعرّضوا له من تجويع، وتهجير، واضطهاد، وإبادة.

 ولتحقيق أيّ مكسب جديد على الأرض، ليس هناك من مندوحة عن استعادة القرار السيادي بعيدًا عن لعبة التجاذبات التي أدّت إلى الارتهان للخارج.. مهما طال أمد النصر، واعتماد الحلّ السلمي واستعادة فاعليّة التظاهرات السلميّة، بعيدًا عن التسلّح الذي يفرض علينا قسرًا الارتهان للجهة الداعمة للتسليح، وهو أمر لم يكن متكافئًا في ظلّ امتلاك النظام لسلاح الطيران والسلاح الكيمياوي، وفي ظلّ دعم قوى العالم وحمايتهم له. ولن يكون كذلك إلّا عبر عمليّات خاطفة لما يشبه حرب العصابات، تستنزف العدو بتكتم دون الاضطّرار إلى المواجهة غير المتكافئة معه، إن كان لا بدّ من العمل العسكري لزعزعة أمن النظام.

وهنا لا مناص من استعادة التكاتف واللحمة الداخليّة لبناء عقد اجتماعي جديد، يفرض بالضرورة تصحيح الخطاب الثوري الذي ابتعد به المغرضون عن كونه جامعًا موحّدًا، يساوي بين أبناء الوطن الواحد في دولة المواطنة القانونيّة الديمقراطيّة، والحياديّة العادلة تجاه جميع أبناء الوطن الواحد، مهما اختلف رأيهم أو دينهم أو طائفتهم أو عرقهم أو جنسهم، وإيجاد حلّ عادل للمشكلة الكرديّة ضمن إطار سيادة سورية ووحدة أراضيها، ونبذ كلّ المشاريع التقسيميّة التي تضعفنا ولا تقوينا، سواء أكانت إدارات ذاتيّة أو فدراليّة أو غيرها من المشاريع، إن كانت تقوم على تقسيم البلد الواحد، المقسّم أصلًا في السابق بحكم اتّفاقيات كـ (سايكس بيكو) وغيرها من الاتّفاقيات الاستعمارية التي أضعفتنا وشرذمتنا ليسهل التحكّم فينا عبر عملاء لهم نُصِّبوا رؤساء، دون الحاجة إلى استعمارنا مباشرة كما حدث سابقًا، لأن تلك المشاريع ليست قائمة على توحيد دول وولايات كبيرة ضمن كيان واحد يقوّيها أكثر ممّا يضعفها، كما في الولايات المتّحدة الأميركيّة والاتّحاد السوفيتي سابقًا.

علينا أن نكون متبصرين لكلّ ما يُخطّط لنا ويحاك لشعوبنا في الخفاء وفي العلن، بوعي كامل بمسؤوليّتنا عمّا يحدث لنا، فأيّ مخطّط -مهما كان خبثه وخفاؤه- قد لا يجد له موطئ قدم عند الشعوب المسؤولة الموحّدة الواعية، التي تستبصر مصيرها وتتهيأ لكلّ الخطوات القادمة قبل وقوعها، عبر تكاتف أبنائها وتعادلهم في الوقوف على أرض صلبة تطلق طاقاتهم بحرّيّة ومساواة، وعبر دعم وجود مراكز للبحوث والدراسات الإستراتيجيّة والترجمات.

وكذلك يجدر العمل الحثيث على خلق منبر إعلامي حقيقي، يوصل صوت الثورة وأهدافها الحقيقيّة، لا ما يُصَدّر لنا من الخارج ليوسموا بها ثورتنا زيفًا وبهتانًا. منبر كهذا كان له أن يمنع تشويه أهداف ثورتنا ويحافظ على جوهرها، وكان له أن يُحقّق إجماعًا علنيًّا مضادًا للتجييش الإعلامي الممهد لإجراء الانتخابات المزيّفة للنظام وفضح انعزاليّته، بدلًا من أن يعزلنا هو بامتلاكه في منابر إعلاميّة محلّيّة وعالميّة عدة تروّج له وتدعمه. كما يجدر بنا استغلال كلّ المنابر الإعلاميّة ووسائل التواصل الاجتماعي المتاحة، لتحقيق مقاطعة حقيقيّة لانتخابات النظام المزيّفة على كلّ الأصعدة، ولمقاطعة أيّ انتخابات أو حلول خارج أولوية الانتقال السياسي، والعمل على فرض الالتزام بقرارات “بيان جنيف” (2012) والقرار 2254 (2015) الملزمة بإنهاء الاستبداد، وإنهاء حكم بشار الأسد والنظام القائم، وتشكيل هيئة حكم انتقاليّة كاملة الصلاحيّات، تعمل لبناء دولة المواطنة القانونيّة الحياديّة العادلة، ينتج عنها لجنة لدراسة دستور جديد يُستفتى عليه بظلّ حكومة منتخبة، قبل أيّ إجراء آخر يضيع الهدف والبوصلة، كما حدث بتسبيق سلة الدستور واللجنة الدستوريّة على الانتقال السياسي، ما أدّى إلى ضياع الوقت والانحراف عن مسار الثورة الحقيقي. فأيّ دستور يمكن له أن يتحقّق في ظلّ وجود بضعة احتلالات لسورية تتحكّم فيها وبمصيرها، وفي ظلّ عدم وجود انتخابات أو حكومة انتقاليّة منتخبة من الشعب، تستفتى على هذا الدستور بعيدًا عن إشراف دول الاحتلال، التي لا يمكن لها إلّا أنّ تصنع دستورًا على مقاس مصالحها، المضادّة لمصالح الشعوب والمجهضة لحلمهم بنيل حرّيّتهم. كما يجب العمل على سحب البساط من تحت أقدام كلّ المنتفعين من استمراريّة الحرب، من الفصائل المسلّحة والمرتزقة، داخليًّا وخارجيًّا، عبر فضحهم وكشف مدى ارتزاقهم والجهات المموّلة لهم، وإعادة هيكلة الجيش وقوى الأمن، لتلتزم بحدود واجباتها المنوطة بها قانونيًّا، بعيدًا عن الانتماء السياسي. أظن أنّ الاختبار الحقيقي لعودة الحراك السلمي لقوى الثورة، باتّجاه التغيّر الجذري، سيثبت مصداقيّته على محك العمل على ملف المعتقلين والمفقودين الذين لا صوت لهم، بالرغم من أنّهم يفتدوننا بحياتهم وبتضحياتهم الجسيمة، وعلى إعادة المهجّرين وتحقيق العدالة الانتقاليّة.

في النهاية، على الرغم من الإحباطات المتتالية وتعثر تحقيق النصر إلى الآن، وتشرذم القوى على الساحة الوطنيّة وبعثرتها، باتّجاه البحث عن قيادة ذات كاريزما لا تغني ولا تشبع شعبًا قادرًا على خلق أعظم القيادات، حين يتوفّر له المناخ الحرّ الديمقراطي المساوي بين جميع الأبناء والبنات.. كما بان ذلك جليًّا مع بدايات الثورة؛ فإنّنا كشعب لم نستسلم حتّى الآن، ولن نستسلم لحكم الطغاة، ما دمنا نمتلك الأمل بتحقيق نصرنا، الأمل وحده قيد التحقّق الدائم في حياتنا كلّ لحظة رغمًا عن أيّ يأس. ولم يتمكّن تحالف العالم أجمع طوال عشر سنوات من الإطاحة بأملنا وبحلمنا هذا.. بالرغم من دعمهم غير المسبوق لنظام القتل والإبادة، وبالرغم من محاولتهم إعادة تدويره وفرضه بالقوّة علينا، وستفشل كل محاولات تسعى لانتزاع حلمنا بالنصر، إذ ما زال شعبنا إلى الآن يهتف لثورة الحرّيّة والكرامة، ويتنفسها بملء رئتيه إيمانًا وأملًا متجدّدين لا يهمدان. إن لم يكن لثورة كهذه أيّ مأثرة عظيمة، وما أكثرها بثورتنا! يكفيها شرفًا أنّها كسرت حاجز الخوف الذي استحكم النظام من خلاله شعبنا، وحوّل الناس إلى عبيد يعجزون حتّى بأحلامهم عن الانعتاق من عبوديتهم. ويكفينا شرفًا انتمائنا إليها بكونها ثورتنا على ذاتنا وعلى خوفنا أوّلًا وقبل كلّ شيء. كما هي ثورة لنيل الحرّيّة مستمرّة، مهما طال الزمن، ستبقى حيّة متوقدة كفكرة، تشعلنا كلّما خبا لهيبنا، والفكرة لا تموت والأمل بها لا ينطفئ إلّا مع انطفاء الحياة.

عز الدين الملا: الحلول النهائيّة ليست بيد السوريّين

تحوّلت الأزمة السوريّة خلال سنواتها العشر إلى مستنقع راكد، كلّما امتدّت سنواتها زادت روائحها النتنة، نتيجة هذا الكمّ الهائل من الميليشيات والفصائل والتنظيمات الموجودة فيها، إلى جانب عدد وحجم الدول المتداخلة في الشأن السوري. أمّا الشعب المنهك، اقتصاديًّا ومعيشيًّا وأمنيًّا، فلم يبقَ له دور أو مكان في كلّ ما يجري، بعد أن كانت له اليد الطولى في الشرارة الأولى لثورة حقيقيّة ضدّ نظام دكتاتوري مجرم حوّل سورية إلى مزرعة خاصّة.

الأزمة السوريّة زادت تعقيداتها ومتاهاتها بتدخّل وتشابك مصالح وأجندات دول إقليميّة ودوليّة، فمنذ البداية حتّى الآن، تمّ تغيير أربعة مبعوثين خاصّين من الأمم المتّحدة، وكلّ مبعوث يعتذر بعد أن يصل من جراء تقاطعات مصالح الدول المتداخلة في الوضع السوري إلى طريق مسدود، وذلك بسبب عدم وجود إرادة دوليّة للحلّ، وهذا الاستعصاء أدّى إلى خلق مناخ جليدي داخل مجلس الأمن الدولي، لذلك كانت خطوط المواجهة بين هذه الدول تتغيّر بين فترة وأخرى. أمّا خطوط المواجهة بين الدول المتداخلة بشكلٍ مباشر، فإنها لم تتغيّر خاصّة خلال السنة الماضية، حيث كانت سياسة كيل الاتّهامات هي المسيطرة على المشهد العامّ، وهذا مؤشر إيجابي للبدء بالخطوة الأولى نحو الحلّ السياسي.

عندما اشتعلت الأزمة السوريّة، بدأت بثورة قام بها السوريّون لرغبتهم في الخروج من تلك السنوات الرهيبة التي عاشوها تحت رحمة جلادي النظام الدكتاتوري المجرم، وسرعان ما تحوّلت تلك الثورة إلى حركة احتجاجات واسعة شملت جميع الأراضي السوريّة، فتدخّلت الدول العربيّة من خلال الجامعة العربيّة لحلحلة الوضع السوري، ولكن تعنّت النظام وعدم استجابته للمطالب الشعبيّة أدّى إلى فشل الوساطة العربيّة. وكان أن تمّ تدول الملفّ السوري بعد “بيان جنيف” في 2012، الذي نصّ على تأسيس هيئة حكم انتقاليّة كاملة الصلاحيّات، وبقي هذا البيان الأساس في أيّ حلّ سياسي للأوضاع في سورية. ودُعمّ البيان في عام 2015 بالقرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن، الذي نصّ على أربع سلال للحلّ السياسي في سورية، غير أنّ النظام تحجج بمحاربة الإرهاب وجعله أولوية، ومن ثمّ توالت جولات المفاوضات في جنيف دون الوصول إلى أيّ تسوية، فبدأ بموازاة هذه المفاوضات مؤتمر آستانا الذي رعته روسيا، وهذا أيضًا تلاحقت سلسلته حتّى وصل إلى إعلان ترحيل جميع أوراق آستانا إلى جنيف، لدعم الحلّ السوري، وبالرغم من ذلك استمرّت الأزمة دون ظهور لأيّ بوادر الحلّ في الأفق.

كلّما طال أمد الأزمة السوريّة، زادت التدخّلات والتعقيدات، لذلك أعتقد أنّ ما وصلنا إليه ليس صدفة، بل هو مدروس ومخطّط له من أطراف دوليّة، هنا نسأل سؤالًا جوهريًّا: ما دمنا كمعارضة نتفاوض مع النظام منذ فترة طويلة، فلماذا يستمرّ كل هذا الدمار والخراب، بعد أن خرج السوريّون في آذار/ مارس 2011 مطالبين بالحرّيّة وإسقاط نظام الأسد؟

وهنا، أؤكّد أنّ الدول الكبرى استغلّت مطالب السوريّين بالحرّيّة والكرامة لمآربها ومصالحها، وهم المسؤولون الرئيسيّون عن كلّ ما حصل ويحصل. لذلك -كما قلنا في بداية حديثنا- إنّ الدول المتداخلة بالملفّ حقّقت اليوم ما كانت تصبو إليه، وفي مقدّمته تدمير البنية التحتيّة لسورية، وهذا يعطي هذه الدول دفعًا نحو المطالبة باستثمارات اقتصاديّة وتنمويّة، يُدرُّ عليهم مليارات الدولارات. ومن ثمّ فتح الطريق أمام الهجرة نحو أوروبا ما يتيح لهذه الدول تجديد شبابها من خلال أطفال سورية. وستجعل تلك الدول الكبرى من سورية سوقًا لتصريف منتجاتها مستقبلًا. أخيرًا، وهو الأهمّ، إنّ هذه القوى التي صارت محتلّة لأراضي سورية بعد أن جلبها النظام لمؤازرته شدّدت قبضتها على خيرات البلاد الاقتصاديّة والبشريّة. ولا يفوتنا ذكر أنّه في السنوات العشر الماضية من العمليّات العسكريّة، دخل الأراضي السوريّة فصائل وميليشيات إرهابيّة تحت مسمّيات كثيرة، أحرقت الأخضر واليابس، ودمّرت البشر والحجر، وشوّهت الأخلاق والدين والأسلوب، وحاربت الشرفاء والوطنيّين والمناضلين ودافعت عن اللصوص والعملاء، كما شوّهت الحقائق، وجعلت من المواطن السوري في نظر العالم مرتزقًا ومنبوذًا بعد أن كان السوري مضرب مثل في العالم في الغيرة والأخلاق والتسامح وحب الآخرين، كلّ هذا التشويه قام به النظام والعالم أجمع.

إنّ العمليّة السياسيّة فشلت فشلًا ذريعًا، أمام عدم وجود إرادة دوليّة للحلّ السياسي، وروسيا التي تدخّلت في الشأن السوري عسكريًّا عام 2015، إلى جانب إيران، يقلقها اليوم بشكلٍ كبير التمدّد الإيراني في سورية والمنطقة، وباتت تراه يهدّد مصالحها في شرق المتوسط، بعد أن حافظت على بقاء نظام الأسد ومنعته من السقوط، دافعة بكامل قوّتها لإضعاف المعارضة الوطنيّة، وهو ما نجحت فيه بعد أن حالت دون أن يكون نظام الأسد ضمن التسويّات المستقبليّة لسورية، وهي الآن تعمل على إضفاء الشرعيّة عليه، من خلال إجراء الانتخابات في موعدها المحدّد، لكن الضغط الأميركي والأوروبي قد يحول دون إجرائها في موعدها، وقد تبحث روسيا والنظام عن حجّة لتأجيلها، إن زادت الضغوط بخاصّة من طرف إسرائيل. أمّا الولايات المتّحدة الأميركيّة، فإنّها خلال فترة ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب كانت تتخبّط في سياساتها الدوليّة، وأزعجت العديد من دول العالم وخاصّة حلفاءها، أمّا الآن، بعد تولي جو بايدن رئاسة الأميركيّة، فهناك بعض الأريحية للجميع، والمعروف عن بايدن خبرته الطويلة في مضمار السياسة العالميّة ومعرفته بمفاتيح العديد من الأمور، وقد تشهد فترة رئاسته تطوّرات إيجابيّة على مستوى الشرق الأوسط. وهناك أولويّات أميركيّة في السياسة الخارجيّة، مثل الملفّ النووي الإيراني والملفّ الأفغاني والخليجي، ومن الملاحظ أنّ أميركا ستقوم بترتيبات وتكتيكات جديدة، ومن الممكن أن يصبح الملفّ السوري من الملفّات الإستراتيجيّة في الخطّط الأميركيّة القادمة، ويظهر ذلك جليًّا في بقاء قوّاتها في سورية وتصريحات مسؤوليها بأنّ للإدارة الأميركيّة توجّهات جديدة في الشأن السوري.

وفي النهاية، يمكننا التأكيد أنّ الوضع السوري، بعد عقد من الزمن، لم يبقَ يتحمّل المماطلة والتأجيل، خاصّة أنّ الوضع الاقتصادي في تدهور كبير، وقد تنهار جميع مؤسّسات الدولة إن استمرّت الحال على هي عليه، وإن لم يتّجه الملفّ السوري نحو الحلحلة، بعد أن أنهكت الأزمة الجميع. باعتقادي الحلول النهائيّة ليست بيد السوريّين لا المعارضة ولا النظام، فهما أصبحا أجندات للخارج، وهذا ما أرادته الدول الكبرى، بحيث تتنازل الأطراف السوريّة عن مطالبها ويبقى رسم سياسة ونظام حكم جديد لسورية حسب رؤية هذه الدول بخاصّة أميركا وحلفائها وكذلك روسيا ومن خلفهم إسرائيل.

بسام طبلية: سيناريوهات للخروج من هذا الاستعصاء

بعد استمرار اغتصاب نظام آل الأسد للسلطة في سورية، وممارسة سياسيّة التصحّر الفكري والسياسي والاقتصادي، واعتبار سورية مزرعة لهم، وبعد كلّ هذا الفقر والجوع؛ كان لا بدّ لثورة الحرّيّة والكرامة أن ترى النور في آذار/ مارس 2011، فكانت الجماهير الغفيرة تشارك في التظاهرات، حيث خرج الناس في المدن وشاركوا وساندوا هذه التظاهرات، ولكن سرعان ما بدأ القمع والقتل بالرصاص الحي، لإسكات المتظاهرين وتكميم الأفواه، وكان القتل سيدَ الموقف لأشهر معدودة، بحصيلة يوميّة لا تقلّ عن مئة شهيد يوميًّا، وعندما أدرك الأسد أنّ نظام حكمه ساقط لا محالة؛ عمد مباشرة إلى نشر السلاح بيد المدنيّين وافتعال الجرائم وإخافة الأقلّيّات بوساطة عناصر مؤيدين له، وبافتعال التفجيرات والتصريحات الطائفيّة، إضافة إلى استقدام الإسلاميّين من دول عربيّة، مثل تونس وليبيا وغيرها (ذلك تمّ توثيقه من قبلنا) ومصادرة جوازات سفرهم واعتقالهم من على الحدود، عندما استقدمهم هو بنفسه، لكي يُظهر للعالم أنّه يحارب الإسلاميّين الإرهابيّين، إضافة إلى الاعتقال غير القانوني والإخفاء القسري لعشرات الآلاف من السوريّين، وفي ظلّ هذا الوضع، بدأ نظام الأسد بخسارة الأرض، وخسارة كثير من الرماديّين الخائفين على مصيرهم ومصير أولادهم، بسبب آلة البطش والقمع. لكن مع تدخّل روسيا عسكريًّا واتباعها سياسة الأرض المحروقة، ومع دعم الميليشيات الشيعيّة بشكلٍ أكبر، بدأت موازين القوى العسكريّة تتغيّر لمصلحة النظام، فبعد أن كان النظام آيلًا للسقوط خلال أسبوعين، كما ذكرت التصريحات الروسيّة والإيرانيّة، وبعد أن كانت المعارضة تسيطر على أكثر من 70% من الأراضي السوريّة، بدأ التفوق العسكري الروسي – الإيراني يتّجه لمصلحتهم وليس لمصلحة النظام، ما جعل الأخير يبدو في موقف التابع للإملاءات الروسيّة الإيرانيّة من دون أن يحاول تقديم تنازلات سياسيّة لشعبه، حيث آثر تقديم هذه التنازلات لمصلحة الجيوش الأجنبيّة بدلًا من تقديمها لشعبه، وفي ظلّ هذا الوضع المستعصي، مع وجود الجيشين الأميركي الداعم لقوّات سوريا الديمقراطيّة، وكذلك وجود الجيش التركي الداعم للجيش الوطني الحرّ، يبقى الأمر مستعصيًّا على الحلّ، وتبقى المقترحات التالية هي بعض الحلول الإستراتيجيّة للخروج من هذا الاستعصاء للثورة/ الأزمة السوريّة.

الورقة القانونيّة: العمل على تفعيل الورقة القانونيّة، ومن ضمن ذلك إقامة الدعاوى القانونيّة بمواجهة الأسد ونظامه بما اقترفت أيديهم من جرائم، وإظهار أنّه قد اقترف جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانيّة، بحيث يصبح التعامل مع الأسد وكلّ من يتعامل معه ضمنيًّا يقع ضمن دائرة أنّه إرهابي أو أنّه يدعم الإرهاب، ومن ثم العمل بشكلٍ حثيث على عدم تعويمه أو إعطائه أيّ شرعيّة.

الإعلام: تفعيل الماكينة الإعلاميّة للترويج بأنّ بشار الأسد غير شرعي، وأنّه مجرم حرب ويجب محاكمته. وتأييد الشعب والمطالب الشعبيّة بإعلان أنّ الشعب السوري قال كلمته، بأنّ الأسد غير شرعي ومغتصب للسلطة في نظر السواد الأعظم من الشعب السوري، وأنّ من هم في الداخل السوري من أبناء الشعب ليسوا أحرارًا برأيهم، وهم تحت طائلة الاعتقال وقمع أيّ تحرك شعبي، وقد شاهدنا ذلك أخيرًا من خلال منع الجبهة الوطنيّة التقدّمية (جود)، وهي التي تعدّ الأكثر تراخيًّا في صفوف المعارضة نظرًا لوجودها في الداخل، من إتمام انعقاد مؤتمرها التأسيسي، ومنع ممارسة أبسط الحقوق الشعبيّة في التعبير عن الرأي الذي صانه الدستور السوري كما الدساتير الدوليّة. كذلك على الماكينة الإعلاميّة المعارضة إظهار الوجه الأسود والحقيقي للأسد، خاصّة بعد معاناة الشعب والسرقات التي قام بها هو وأركان نظامه، وفضح هذه السرقات، ومنها المساعدات الإغاثيّة الأمميّة التي تبيّن أنّه يُجيّرها لمصلحة جيشه وميليشيّاته. والتأكيد أنّ الانتخابات إذا ما قام بها الأسد فإنّها ستكون غير شفافة، وبيان أنّ الناخب غير محدّد وغير معروف، خاصّة بعد منح الجنسيّة السوريّة بشكلٍ التفافي لعدد كبير من عناصر الميليشيات الشيعيّة التي كانت تقاتل إلى جانب نظام الأسد، وكذلك لعدم إمكانيّة عقد الانتخابات في جو سليم وصحي، خاصّة أنّ كثيرًا من السوريّين، إمّا بلغوا سنّ 18 سنة وليس لديهم وثائق ثبوتيّة، وإما أنّ مئات الآلاف منهم معتقلون أو متوفون.

لوبي معارض: العمل على تشكيل لوبي يمثّل قوى المعارضة بشكلٍ حقيقي، ليمثّل مصالح الشعب ويتفهم المصالح الدوليّة ومخاوف الدول الأخرى.

جسم واحد ممثّل شرعي للشعب: دعم قوى المعارضة ودفعها إلى تشكيل جسم سياسي جديد يتمّ الاعتراف به كممثّل شرعي جامع لكلّ السوريين. ومن ثمّ دعم شخصيّة غير جدليّة متوافق علها من المعارضة لقيادة المرحلة.

هيئة حكم انتقالي: الإعلان عن تشكيل هيئة الحكم الانتقالي ذات صلاحيّات تنفيذيّة كاملة، تقوم بإعلان دستوري يمكّنها من تولّي شؤون الحكم خلال المرحلة الانتقاليّة، وتعمل على تأمين البيئة الآمنة والمحايدة من أجل سلامة عمليّة الانتقال السياسي. والعمل على تهيئة وخلق البيئة الآمنة التي نصّ عليها القرار الأممي 2254. كذلك العمل على تهيئة وتدريب نظام قضائي جديد (وكذلك شرطة قضائيّة)، يتميّز بالشفافيّة والحياديّة للتخفيف من معاناة الناس من جراء الفوضى التي لحقت بهم.

 تنفيذ القرارات الأمميّة: العمل بشكلٍ منهجي وقانوني على تطبيق القرارات الأمميّة، بما فيها بيان “جنيف1” والقرار 2254.

العدالة الانتقاليّة: العمل على تفعيل مفهوم العدالة الانتقاليّة ومحاسبة المجرمين من كلا الطرفين.

ويبقى الباب مفتوحًا للعديد من الاقتراحات والحلول، باعتبار الظروف السياسيّة غير مستقرّة ومتغيّرة. ولأنّ الشعب هو من يدفع الثمن الأكبر في هذه الظروف، تبقى الولايات المتّحدة هي الدافع الحقيقي لأيّ حلّ تريده، ذلك أنّ كثيرًا من دول العالم تقف جنبًا إلى جنب مع أيّ حلّ تقترحه الإدارة الأميركية. ويبقى على أهلنا في الداخل أن يقفوا اليوم موقف الرجل الواحد، ضدّ هذا النظام الذي هرّب الأموال إلى روسيا وغيرها من الدول، تاركًا الشعب يَئِنُّ من الجوع والفقر، حيث وصل أكثر من 85 % من الشعب السوري إلى دون خط الفقر. فالموقف الثوري والشعبي والدعم الأميركي هو الحلّ الأمثل لإنهاء هذه المأساة الإنسانيّة التي لم يشهد العالم مثيلًا لها منذ الحرب العالميّة الثانية.

مرح البقاعي: علينا كسوريّين أفرادًا ومؤسّسات تكثيف التواصل مع الإدارة الأميركيّة

أرغب بداية في الإجابة على سؤالك بطريقة غير تقليديّة، بأن أسأل من جديد: ما هي جاهزيّة السوريّين، بقواهم السياسيّة والمدنيّة الفاعلة التي تتصدّر واجهة الحراك الآن، لمواجهة الاستحقاقات السياسيّة التي تقف وراء الأبواب والحؤول دون تكرار المشهد الهزلي للانتخابات الرئاسيّة التي جرت في العام 2014 ودفعنا ثمنها غاليًا ست سنوات أضيفت إلى ما قبلها من عجاف، لتدخل الثورة الشعبيّة السوريّة الماجدة في عامها الحادي عشر دون التقدّم بجدّيّة نحو انتقال سياسي حقيقي بإرادة سوريّة تدعمها القرارات الأمميّة النافذة؟!

سأترك الإجابة عن هذا السؤال لكلّ سوري أسهم في الثورة بقطرة دم أو حبر، لأرسم من جديد خارطة طريق للانتقال السياسي في سورية باتّجاه دولته الجديدة المنشودة، الدولة الديمقراطيّة المدنيّة التعدّدية، دولة القانون والمواطنة المتساوية؛ بينما سأحاول أن أضع آليّات لتكون الخارطة أقرب إلى التطبيق منها إلى حلم طوباوي طال على السوريّين وصار من الحتمي أن يتحوّل إلى واقع.

علينا أن نعترف أنّ الدفة الدوليّة، الإقليميّة منها، لا تسير بما تشتهي إرادة السوريّين وطموحاتهم. فالخلافات البينيّة بين دول الخليج الداعمة بكُلّيّتها للثورة السوريّة أصابت المسار السوري بالوهن، وجزّأت المجزّأ أصلًا من المواقف في صفوف المعارضة السياسيّة التي اضطّرّت إلى أن تصطف في بعض الأحيان بما يتماشى الجهة الداعمة بعينها ومراعاة أجنداتها السياسيّة؛ وقد كانت قمة (العلا) في المملكة العربيّة السعوديّة، التي رأبت الصدع الخليجي بصورة مقبولة، فرصةً للمعارضة السوريّة لتستعيد وحدة كلمتها، ولا أعرف في الحقيقة كم تمكّنت تلك المؤسّسات السوريّة الثوريّة من قراءة المشهد الخليجي التصالحي والإفادة منه بعد طول انقسام.

أما على المستوى الأميركي الذي يلتحق به الأوروبي، فموقف الولايات المتّحدة لم يتغيّر من دعم غير مشروط للتغيير السياسي في سورية بيد أبنائها، وظلّ يحتفظ بآليّاته في الدعم الإنساني والسياسي على اختلاف الإدارات التي واكبت سنوات الثورة السوريّة العشر. في شهر نيسان/ أبريل الجاري، تترأس الولايات المتّحدة مجلس الأمن، وعلى جميع السوريّين المنخرطين في العمليّة السياسيّة، أفرادًا ومؤسّسات، أن يكثفوا التواصل مع الإدارة الأميركيّة من أجل دفع عجلة تنفيذ القرار الأممي رقم 2254 الذي طال انتظار تنفيذه، من خلال موقعها الرئاسي في المجلس، الذي يمتدّ على ثلاثين يومًا هي كافية للعمل على تنفيذ قرار اتّخذه المجلس بالإجماع منذ أعوام. ولا بدّ من تشجيع الولايات المتّحدة على المضي في رسم توافقات مع الدولة الروسيّة، من أجل التأسيس لثوابت الانتقال السياسي الذي ليس مرفوضًا في جوهره كلّيًّا من موسكو. وهذه فرصة لحث الدولتين الكبريين الفاعلتين على الأرض السوريّة وفي المحافل الدوليّة من أجل الدفع بالعجلة السياسيّة قدمًا نحو سورية ما بعد الاستبداد.

ولن ننسى في هذا المقام ارتباط العقوبات الاقتصاديّة التي أقرّتها الولايات المتّحدة وتنفيذ واشنطن لها بحزم على الحكومتين في آن في موسكو وحكومة الأسد في دمشق، وأنّ إعادة بناء الاقتصاد السوري المنهار وفتح الطريق لعمليّة إعادة الإعمار في سورية (وستكون من أوسع العمليّات وأعلاها تكلفة ما بعد الحرب منذ الحرب العالميّة الثانية) لن تتمّ إلّا بعد وصول هيئة حكم انتقالي تحمل دستورًا جديدًا للبلاد، يؤسّس لبناء دولة مدنيّة دستوريّة تقوم على مبدأ المواطنة والديمقراطيّة وسيادة القانون. وهذا قرار أميركي وأوروبي لا تراجع عنه البتّة.

خارطة طريق السوريّين واضحة، والوثائق التي أنتجوها منذ انطلاقهم في ثورتهم تعدّ بالمئات، وكلّها تجتمع في حزم متقاربة تحدّد محاور الانتقال السياسي. أمّا تنفيذ خارطة الطريق لسورية فهو مهمّة لا تقوى عليها حكومة، ولا قوّة سياسيّة منفردة، بل إنّه واجب وفرض عين يجب أن يتحمّله الجميع.  والتغيير القادم سيستهدف بناء الإنسان السوري الذي يمتلك مقوّمات وأدوات الفعل والإبداع كافّة، وقد أثبت ريادته وتميّزه في دول الانتشار بعد أن تمّ تهجيره قسرًا إلى أصقاع الأرض. من هنا، لن يكون الانتقال السياسي وإعادة بناء سورية الجديدة بمنأى عن عودة اللاجئين للإسهام في إحياء روح وجسد بلدهم الذي مزّقته الحرب والأطماع. وهذا الأمر يندرج ضمن ثوابت الأمم المتّحدة في حقّ اللاجئين بالعودة المشروطة بـ “الآمنة والطوعيّة والكريمة”، إلى مسقط رأسهم. أما العدالة والمساواة فهي حقوق أصيلة لكلّ مواطن، وهي منح من الله، وليست من الأمم والبشر، ولا تمييز في هذه الحقوق بسبب المعتقد أو الجنس أو اللون، على ألّا تجور حرّيّة الفرد على حقّ من حقوق الآخرين أو حقوق المجتمع ككلّ.

إنّ تحقيق العدل والمساواة هو الهدف النهائي للديمقراطيّة في النظام السياسي الجديد المرتجى لسورية، وهو أمرٌ يتطلّب مساءلة ومحاسبة كلّ من ارتكب جرمًا بحقّ الشعب السوري، وأهدر الحقّ السوري العامّ، أو ألحق الضرر بالمدنيّين في حياتهم واستقرارهم ومنشآتهم الحيويّة. وهذا الأمرُ يتطلّب المثابرة على جمع الوثائق التي تدين كلّ من تلطخت يداه بالدم السوري أو بالفساد المالي، استعدادًا لإحالته إلى هيئات قضاء عادلة ومراقبة. فدون تحقيق العدالة ومحاسبة المعتدين لن يكون هناك سلم أهليّ مستدام في سورية، ولن تكون سورية دولة مستقرّة تؤمن عيشًا آمنًا لأبنائها، يشجّعهم على العودة من مواقع اللجوء والمغتربات إلى وطنهم الأمّ.

وممّا لا شكّ فيه أنّ وقوع سورية في براثن الاحتلالات الأجنبيّة العسكريّة لقوّات نظاميّة أو ميليشياويّة خارجة عن القانون، يؤخّر التوصّل إلى إصلاح ذات البين بين السوريّين أوّلًا، ويعقّد المساعي الدوليّة للإسراع في إخراج سورية والسوريّين من هذا النفق المظلم، بسبب تضارب مصالح المحتلّ التي ساحتها سورية. هذه الاحتلالات (ويتقدّمها احتلال أجهزة الأمن والقمع التي تشكّل بنيان دولة الاستبداد في سورية، والتي تكاد تنافس في عداوتها للشعب السوري الاحتلالات الأجنبيّة مجتمعة) هي من يعرقل كلّ محاولة للتقدّم نحو التغيير السياسي والدستوري الحقيقي الذي يشكّل نقطة الانطلاق للتغيير الأشمل ولتمكين الحياة الديمقراطيّة جوهر الإصلاح السياسي، والسبيل الأقصر والأضمن لتحقيق المصلحة الشعبيّة العامّة، حتّى لا يستبد فرد أو فئة بالتصرف في الأمور العامّة التي تتأثر بها مصالح السوريّين العليا. ومن نافلة القول أنّ القوى المتداخلة في سورية تمنع، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، إطلاق المشروع الوطني السياسي والدستوري، وتحاول أن تفرض نموذجًا سياسيًّا بديلًا لا يراعي خصوصيّة المجتمع السوري، ولا يقيم وزنًا لتاريخه السياسي ونضاله الوطني والديمقراطي. ومن هنا يأتي دور النخب السياسيّة من أبناء الثورة لقيادة مشروع مضادّ لانتهازيّات الدول وتناحرها، بهدف إحباط كلّ ما يشكّل تهديدًا على مصالحها البعيدة المدى على الأرض السوريّة.

 أومن بقوّة أنّ بذور الثورة التي نثرها شبابها وشابّاتها في آذار/ مارس 2011، على تربتها الندية والمخضبة بدماء من سقطوا منهم برصاص صنّاع الغدر والموت في أجهزة النظام السوري، لا بدّ من أن تنبت، ولو استعصت عليها الأرض لحين. وأنّ الانتقال السياسي إلى دولة سوريّة تشبه حضاراتها التي عاشتها على مدى آلاف السنين ليس بالبعيد ولو تأخر. ليست كلماتي بمسكّن آلام مؤقّت، ولا حالة من الوهم أو الهروب أو العمى عن الواقع المعاش، بل هو حقيقة نسجها الشعب السوري بأصابعه المغمّسة بالنار، وصوته المبحوح بالغصّة، وهدير مراكبه تجنح في بحار العالم بحثًا عن ملاذ لا يسقط فيه سقف بيت على رأسه، ولا يساق إلى غياهب المعتقلات، لأنّه طالب بحقٍّ إنساني أساسي تكفله كلّ الشرائع السماويّة والقوانين الوضعيّة: الحرّيّة والكرامة والعدالة الإنسانيّة. وإنّ غدًا لناظره قريب.

د. محمد الأحمد: لا طريق أمام السوريّين الثوريّين إلّا خلق عصبة وطنيّة قويّة جديدة

بلادنا مفتوحة على مجموعة احتمالات في الحقيقة، فالمعادلة السوريّة صارت (معادلة المركز والأطراف)، وهي تعني أنّ مصدر الأزمات الأوّل (النظام) يولّد مصادر أزمات أخرى، وهي الأطراف (سورية الشماليّة الشرقيّة) و(سورية الشماليّة الغربيّة) وربّما (سورية الجنوبيّة)، فكلّما تأخر الحلّ والتغيير السياسي في دمشق، تأخر لا أمر الأطراف وتعقّد، وإذا طال الزمن فقد تصبح الكيانات التي عدّدناها مستقلّةً عن دمشق أو مرتبطة بها اسمّيًا فقط.

من الواضح أنّ معسكر النظام وإيران و”حزب الله” اتّخذ قراره، بعدم التخلّي عن الممرّ العسكري (طهران – بيروت) لكنّه لا يملك الثمن المالي لهذه الرغبة، إلّا أنّنا، من هذه الجزئيّة بالتحديد، نرى الطلاق القادم، الذي سيعلن بين الروس والإيرانيّين في سورية، فللروس حسابات مختلفة، ممّا يفسر زيارات سيرغي لافروف للخليج، والإعلان عن مسارات تعاون جديدة تستبدل آستانا، فروسيا لا يهمّها الممرّ العسكري، بل هي تعمل للتخلّص منه، ولكن بالنفس الطويل. بالنسبة إلى العمليّة الداخليّة، لا نرى أنّ الروس سيقبلون باستمرار “الستاتيكو” (الوضع القائم) الداخلي كما هو، لأنّ الأمر مكلف لهم! مكلف ماليًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا. حيث يحتاج النظام، لكي يستمرّ، إلى خمسين مليون دولار كلّ أسبوع. بعض الأصدقاء من الوزراء السابقين ممّن يعرف بواطن الأمور قال: النظام يحتاج إلى مئة مليون دولار في الأسبوع، إن أراد أن يعيد جزءًا بسيطًا من عمل الدولة الإنتاجي والمرفقي والحكومي، وإبقاء سعر معقول لليرة. ومن هنا، يجب التفكير، فحتّى لو حصلت المسرحيّة الانتخابيّة، فإنّ استمرار “الستاتيكو” مستحيل. لذلك يحاول الروس إحداث زواج خصوم في سورية -لكسر “الستاتيكو”- ولكنّنا لا نعرف عروسًا -عليها القيمة- في الضفة الثوريّة تقبل بالنظام كزوج. إلّا أنّ هناك أطرافًا عربيّة تريد هذا التعويم، خوفًا من الإخوان المسلمين والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وهي لا تقبل أن يُحقّق الطرف الإخواني أيّ انتصار قرب حدودها، وبما أنّ الإخوان المسلمين لا يريدون فهم المعادلة القديمة الجديدة، التي تقول إنّ حربهم من أجل السلطة في سورية ساعدت إلى حدّ كبير في دعم بشار الأسد. ومن ناحية أخرى أساسيّة لا طريق أمام السوريّين الثوريّين إلّا خلق عصبة وطنيّة قويّة جديدة، وانتخاب قيادات قادرة، والتعلّم من أخطاء الماضي، وهذا سيغيّر الكثير.  

جوان يوسف: السيناريو المفقود وأطراف الحلّ في سورية

على الرغم من مرور عقد من الزمن على الأزمة السوريّة، فإنّ أطراف الحلّ الحقيقيّين ما زالوا مجهوليّ الهويّة، تعدّدت المسارات وتغيّرت الأطراف وتجدّدت التحالفات؛ ولكن حتّى الآن لا يبدو واضحًا من هي أطراف الحلّ السياسي، أهي مجموعة سوتشي وآستانا، أم أطراف المعارضة والنظام، أم مسار جنيف، أم الأميركان؟ الكلّ له دور وشأن مهمّ في مسار الحلّ السوري، ولكن لا أحد يستطيع التكهّن حتّى الآن من الذي يسعى إلى حلّ جدّي يرضي الأطراف، ومن يريد أن يستمرّ الوضع على ما هو عليه، في حالة اللَّا حلّ، بالرغم من أنّ الجميع اتفقوا وتوافقوا منذ زمن أنّ الحلّ في سورية هو حلّ سياسي.

إذن، يمكن القول إنّ هناك ثلاثة أطراف رئيسة تتحكّم في المشهد السوري: الأوّل يريد إطالة أمد الحرب في سورية إلى أن تتحقّق مصالحه، تلك الموزعة بين مصالح اقتصاديّة وجيوسياسيّة؛ والثاني جعل من سورية ملعبًا لتصفية الحسابات مع خصومه، ولا ننسى ذاك الطرف الذي يدير الأزمة لأهداف إستراتيجيّة موجودة على جدول أعماله، لكنّها لم تنضج وما تزال بعيدة المنال.

أيًّا يكن، فإنّ النهاية ما زالت بعيدة، وظروف الحرب ما تزال مرجّحة -وإن كانت أقلّ عنفًا- على شروط الحلّ السياسي الذي يبدو حتّى الآن ترفًا يوميًّا لجميع الأطراف، بالطبع باستثناء المواطن السوري صاحب المصلحة، وهذا الاستنتاج ليس اختراعًا ولا إبداعًا من وحي الخيال، وإنّما من واقع وجود مصالح لأطراف متعدّدة ومتداخلة في الأزمة السوريّة، لم تحقّق أيّ منها أهدافها حتّى الآن، بل إنّ مصالحها حتّى هذه اللحظة محل تكهّنات، باستثناء أطراف الصراع الأساسيّة، على الأقلّ شكلًا، المعارضة والنظام الذي يبدو واضحًا أنّ المسألة بينهما مسألة وجود، وبالتالي لا تدخل في سياق الحلّ السياسي. في ظلّ هذه التعقيدات، سؤال الحلّ يستتبع جملة من التساؤلات: هل سيستمرّ الوضع في سورية إلى ما لا نهاية في حالة اللَّا حلّ؟ غالبًا لا، لكنّ التاريخ يخبرنا أيضًا أنّ الحروب الأهليّة استمرّت عقودًا طويلة، ومنها الحرب الأهليّة في السودان التي استمرّت خمسين عامًا، قبل أن تنتهي باستقلال جنوب السودان عام 2011، صحيح أنّ أمر السودان مختلف قليلًا عن سورية، لكنّها تحمل التركة نفسها، صراعات طائفيّة وقوميّة وإقليميّة وسلطويّة هي ذاتها التي حكمت الحرب الأهليّة في السودان نصف قرن. وبالعودة إلى السؤال الرئيسي المطروح حول الحلول الإستراتيجيّة، بعد فشل العمليّة السياسيّة والقفز على القرارات الدوليّة، نجد أن المتابع لا يحتاج إلى كثير من الذكاء والحصافة ليقول: إنّ حوامل جنيف وسوتشي وآستانا لا تحمل أيّ مقوّمات للحلّ السياسي في سورية، لأنّ أيّ حلّ سياسي أو حتّى تسوية يجب أن تتمثّل فيها مصالح الأطراف كلّها، وتكون الأطراف الفاعلة مشاركة في هندستها، وإلّا أصبح الأمر عبثًا أو في أحسن الأحوال سوف يؤدّي إلى تجديد الصراع بتحالفات وقوى جديدة، والكلّ يعلم أنّ الحوامل السابقة ينقصها أهمّ ثالث مكوّن عسكري وسياسي في سورية، وهي الإدارة الذاتيّة وقوّات سوريا الديمقراطيّة.

في مشهد الصراع:

لا شكّ في أنّ روسيا لن ترضى بالبعد الإسلامي  للنظام القادم، ولن تقبل بنظام لا يضمن مصالحها، وخاصّة في ما يتعلّق بحمولة الحرب التي تحمّلتها، وأنّ تركيا لن تقبل بنفوذ كردي -ولو كان على شكل لامركزيّة إداريّة- ضمن مناطق تواجدها، وإيران لن تقبل بنظام يقطع خطوط إمدادها مع “حزب الله” أو يقطع عليها طريق ثورتها الشيعيّة، والسعوديّة لن تقبل بنظام موال لتركيا، فهي تخشى من تضخم وزن تركيا على حساب مركزها ومرجعيّتها في قيادة السنّة، والسنّة لن يقبلوا بنظام يقوده العلويّة (على حدِّ تعبيرهم) والنظام (العلوي) لن يقبل بالتخلّي عن الحقوق المكتسبة خلال نصف قرن، وتركيا الأكثر فاعليّة بالملفّ السوري لن تتخلّى عن حلمها بإعادة ولاية حلب إلى جغرافيّتها، أو على الأقلّ بنظام يكون خارج عباءتها الأيديولوجيّة والسياسيّة، وهو الأخطر من ضمن كلّ المشاريع السابقة.

تبقى أميركا التي أعلنت مرارًا أنّ جهودها تتركّز على أمرين: الأول مواجهة النفوذ الإيراني وتعطيل ممرّها البرّي الذي يربط بين إيران ولبنان؛ والثاني منع عودة ظهور التنظيمات المتطرّفة مثل الدولة الإسلاميّة (داعش) والقاعدة، وأعتقد أنّ ذلك ما هو معلن من الإستراتيجيّة الأميركيّة، أمّا ما هو مستتر وغير معلن، فإنّها تريد لها قاعدة ثابتة في سورية والعراق اللتين كانتا حتّى وقت قريب مناطق نفوذ روسيّة، وأهمّ مستوردي السلاح منها، وأهمّ خصمين إستراتيجيّين من حيث الإمكانات البشريّة والجغرافيّة لإسرائيل، لذلك لن تسمح لروسيا باستعادة موقعها مجدّدًا. أمام كلّ هذه التناقضات، يبدو أنّ الخيار الأفضل وبشكلٍ خاصّ للولايات المتّحدة الأميركيّة، على المدى المنظور، أن يبقى الوضع معلقًا، إلى أن يستوي الجميع وبشكلٍ خاصّ تركيا، عندها يصبح الحلّ مستندًا إلى قرار مجلس الأمن 2254، بوجود كلّ أطراف الصراع الداخليّة، مع تعديلات تسمح بوجود ثلاثة أقاليم مع شرعنة أمميّة للوجود الروسي والتركي والأميركي، كلٌّ في منطقة نفوذه الحاليّة.

خالد قنوت: استمرار المدّ الشعبي الثوري بعد عشر سنوات من عمر الثورة

بالتدقيق في صيغة الأسئلة المطروحة، ولتقديم إجابات علميّة واقعيّة كحلول إستراتيجيّة للأزمة السوريّة، أعتقد أنّنا أمام تحديد صورة شاملة للوضع العامّ دون الخوض في التفاصيل، وهي لا تقلّ أهمّيّة في رسم الإستراتيجيّات:

في الجانب المظلم من الصورة:

1- سورية مقسّمة بين خمس دول، وتحت سطوة قوّة نظامٍ لم يفقد كلّ أوراقه بعد، ووجود ميليشيات حليفة للنظام وأخرى معادية له، كلّ تلك القوى تشكّل حاميًا ظرفيًا لبعض المكوّنات السوريّة بشكلٍ أو بآخر، ولكن جميعها بالمحصّلة معادٍ لكامل الشعب السوري ولكينونة الدولة الوطنيّة السوريّة.

2- انهيار اقتصادي عامّ وشامل، حتّى في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، قد يتّجه بالبلد نحو المجاعة. وما التحوّلات الديموغرافيّة التي ترافق الارتباطات الاقتصاديّة في ظلّ غياب الدولة الوطنيّة، إلّا إسقاط عامّ لسياسة (الجوع أو الركوع) التي تمارسها كلّ القوى العسكريّة القائمة على المكوّنات السوريّة التي تعيش تحت سطوتها، اليوم.

3- ظهور مشاريع لا وطنيّة على مساحات متفاوتة على الأرض السوريّة، كمشاريع انفصاليّة أو تابعيّة بالعقيدة الدينيّة أو المذهبيّة لدول إقليميّة ذات إستراتيجيّات عابرة لحدودها وجميعها يتحدّث بوحدة الوطن السوري.

4- بقاء النظام بالشكل وبالوظيفة والمحافظة عليه، دوليًّا، كنوع من تشريع لوجود الاحتلالات.

5- تأجيل طرح إستراتيجيّة أميركيّة سياسيّة وعسكريّة من قبل إدارة الرئيس جو بايدن الجديدة، بسبب عوامل داخليّة، وأخرى تتعلّق بتنفيذ أو تحديث لسياسة الرئيس الأسبق باراك أوباما في سورية والمنطقة في ظلّ التوازنات الجديدة التي لم تكن بعيدة عن تحكّم الإدارة الأميركيّة بها وبمساراتها.

في الجانب المشرق من الصورة:

1- قناعة وطنيّة تدرجيّة وشبه عامّة بحتميّة تجاوز محنة انحسار الحراك الشعبي الوطني، ودراسة أسباب فشله والإيمان العامّ بضرورة التفكير ثمّ القيام بعمل ما تجاه سورية كوطن، بالرغم من الشعور العامّ بالعجز وبتواضع حجم التأثير في ميزان القوى السياسيّة على الأرض السوريّة.

2- تصوّر عامّ بمحدوديّة أيّ طرح سياسي غير وطني للحلّ في سورية، بعد سقوط أو إسقاط أو استبعاد للنظام، كطرح أيديولوجيّات دينيّة أو قومجيّة أو يساريّة أثبتت فشلها على مستوى العالم، والبحث عن طرح وطني فوق الأيديولوجيّات نحو بناء الدولة الوطنيّة.

3- استمرار المدّ الشعبي الثوري بعد عشر سنوات من عمر الثورة الشعبيّة، والتأكيد على وحدة الشعب السوري وانتماء مكوّناته المتعدّدة إلى قضيّة وطنيّة جامعة، وعلى استعادة شعارات السنوات الأولى التي كانت مددًا كبيرًا على امتداد الوطن حتّى في مواقع النظام الحصينة.

في السياق، يمكننا أن نحدّد موقفًا من التحضير للانتخابات الرئاسيّة السوريّة التي لم يُقِم لها المواطن السوري -على صعيد فردي- منذ خمسين سنة من حكم الأسديّة أيّ قيمة، حيث كانت استفتاءات شكليّة تترافق مع حالة قسريّة تجاه المواطن المسلوب الإرادة، في ظلّ قبضة أمنيّة وحشيّة لا طاقة للمواطن الفرد لرفضها. أما على الصعيد الدولي، فقد كانت الانتخابات طوال عقود تأكيدًا لشرعيّة النظام، كنظام خدماتي يقوم تحت ستار الشعارات القوميّة بتحقيق ما لا تريد الدول الفاعلة تحقيقه بوسائلها، كالتدخّل في لبنان، والقضاء على الوجود الفلسطيني في مواجهة إسرائيل، وكذلك في تدمير العراق، وفي استبعاد دور مصري في قضايا عربيّة مصيريّة وغيرها، وهو ما أفضى بتلك القوى إلى الاعتراف بوراثة رأس النظام الحالي لا بل قدّمت له الدعم بكلّ أشكاله، وقتها.

في الوقت الحالي، ربّما قد تغيّرت الصورة، ولم يعد العالم يقبل بهذا النوع من الصورة النمطيّة للدكتاتور الدموي في العالم، فأعربت بعض الدول عن عدم اعترافها رسميًّا بالانتخابات الرئاسيّة السوريّة القادمة إلّا ضمن شروط ضبابيّة بعض الشيء، مع الاقتناع الكامل أنّ المنظومة الدوليّة ستقبل بتغيير في رأس النظام، ولكنّها لا تريد تغيير شكل النظام وهيكليّته الأساسيّة كنظام خدماتي في مراحل مستقبليّة. وما القرارات الدوليّة مثل 2254 إلّا قرارات حمّالة أوجه وتفسيرات متعلّقة بالتسويّات النهائيّة وبثقل كلّ طرف من أطراف النزاع على سورية.

إنّ للإصرار الروسي والإيراني على قيام الانتخابات الرئاسيّة السوريّة، والروسي تحديدًا، أسبابه الجيوسياسيّة والاقتصاديّة: الجيوسياسيّة تتمثّل في توفير غطاء سياسي شرعي للتواجد العسكري لقوّات البلدين، ولنتذكّر أنّ الانتخابات السابقة لم يكن رأس النظام يحتاج إليها، لأنّ الدستور السوري يمنح البرلمان (المدجّن) حقّ التجديد أو تأجيل الانتخابات في حالة الحرب، لكنّ الإدارة الروسيّة هي من أصرّت على قيامها، لتقدّم للعالم صكّ تدخّلها العسكري ثمّ سيطرتها على سورية؛ والاقتصاديّة، بحكم أنّهما قد استثمرتا في سورية الكثير خلال الحرب، ولم تصلا بعد إلى جني أرباح تلك الاستثمارات، مع كلّ عقود البيع والتأجير التي وقّعها رأس النظام لهما، فهما يعرفان أنّ هذه العقود تسقط في حال سقوط الشرعيّة عن موقعها.

بالعودة لسؤال الحلول الإستراتيجيّة للأزمة السوريّة، يمكن أن نقول بالمطلق إنّ كلّ الإستراتيجيّات المطروحة هي ليست حلولًا، بل هي إستراتيجيّات تصبّ في غير المصالح الوطنيّة السوريّة، لسبب جوهري وهو غياب الوزن الوطني السوري في صناعتها، وبسبب تعقيدات وتضارب مصالح الدول الفاعلة في الأزمة السوريّة، وجميعها تملك قوّات عسكريّة وحلفاء وميليشيات تقاتل من أجلها ومعها. في الإستراتيجيّات المحتملة، هناك سيناريوهات عدّة، قد نجد في بعضها نوعًا من الحلول الاقتصاديّة الحياتيّة، وبعض الأشكال الزائفة من الحرّيّات السياسيّة، ولكنّها بالمحصّلة تعني أنّنا -السوريّين- تحت احتلال متعدّد تحكمنا مصالح الدول، وربّما سنكون لزمن طويل وقود حروب دينيّة ومذهبيّة وإثنيّة، حتّى نضالنا الوطني للتحرّر سيتطلّب عقودًا دمويّة طويلة وربّما لأجيال.

إنّ أفضل سيناريو (لا وطني)، في هذه الحالة، هو سيناريو توافق روسي – أميركي، يكون أساسه تغيير في رأس النظام أو تنحيته، والمحافظة على البنية الأمنيّة الحاليّة بشكلٍ أقلّ عنفًا، وبترتيبات طائفيّة وإثنيّة لمناصب الدولة كمحاصصات على الشكل العراقي أو اللبناني، يثبت حالة استحواذ روسي على مناطق شاسعة من سورية، ووجود رمزي أميركي، وإبعاد الميليشيات الإيرانيّة عن الحدود الجنوبيّة مع الجولان المحتلّ، وإدارة أمنيّة لتركيا في الشمال السوري، والاعتراف بإسرائيل في مراحل مستقبليّة، حيث يكون هناك تمثيل صوري لبعض شخصيّات المعارضة المرتزقة في النظام الجديد.

إنّ قبول السوريّين بحلول إستراتيجيّة لأزمتهم الوطنيّة بغيابهم، يعني تسويفًا لحلّ أزماتهم الوطنيّة، والردّ عليها يكون بالعلم والعمل الوطني. إنّ قانون نفي النفي في الديالكتيك يقدّم للسوريّين سيناريو لإستراتيجيّة وطنيّة ممكنة وقابلة للتحقّق، إذا توفرت الإرادات ويتلخّص بالنقاط التالية:

1- العودة للأهداف والشعارات الإنسانيّة والوطنيّة الأوّليّة للانتفاضة، وتقديم خطاب وطني جامع لكلّ السوريّين.

2- العمل على التخطيط لثورة وطنيّة تحرّرية للإنسان الفرد وللوطن، بوسائل مؤسّساتيّة حديثة ومتجدّدة وبخبرات تراكمية.

3- إسقاط كلّ العلائق والمرتزقة وموروثات الاستبداد.

4- تحديد الأولويّات والمسؤوليّات والتحالفات والتمويل البشري والمالي الوطني، والعمل (السياسي والاجتماعي والعسكري) المتدرج التصاعدي (السري والعلني)، نحو هدفين إستراتيجيّين: تحرير سورية كعمل مشروع بنصوص الأمم المتّحدة، وبناء دولة المواطنة العادلة الديمقراطيّة ضمن حدودها الوطنيّة، وهذا حقّ إنساني مطلق.

فاروق حجّي مصطفى: مقبلون على التغيير من رحم القرار الأممي لا غير

قبل أيّام، قرأنا تصريحًا صدر عن مسؤولين أميركان، مفاده أنّ “النظام فشل في استعادة شرعيّته، بأعيننا”، وقرأنا “أنّنا لا نستهدف تغيير هندسة الحكم”. وقبل هذا التصريح، ثمّة أمر قائم وفاعل ويؤثّر بشكلٍ غير متوقّع في مجريات الوقائع، ولعل هذا الأمر هو “العقوبات” أو “قانون قيصر”. ولا أظن أنّ هناك سيناريو أقوى من سيناريو القرار الأممي 2254، وهو السيناريو الوحيد الذي يمكن أن يسهم في التغيير المنشود، ولو أنه يسير ببطء. وأعتقد أنّ هذا القرار الأممي هو الذي يسدُّ الطريق على شرعيّة انتخاب بشار الأسد، وهو الذي سيكون مدخلًا في إحداث التغيير الجذري في بنيان الحكم وشكل الدولة.

إن جمود العمليّة السياسيّة لا يعني قطّ أنّ العمليّة فشلت؛ فالعمليّة قائمة ولو بشكلٍ خجول، ما هو خطأ، اختزال وارتهان كلّ العمليّة التفاوضيّة بالعمليّة الدستوريّة، مع أنّه لا يمكن للأخيرة أن تنجح دون تفعيل كامل مسارات العمليّة التفاوضيّة. كذلك لا يمكن للعمليّة التفاوضيّة السياسيّة أن تنجح دون إجراء التغيير في شكل ومحتوى المفاوضات. وأعتقد أنّنا أمام استحقاق تفعيل العمليّة السياسيّة التفاوضيّة، بطريقةٍ أخرى، أي أنّ العمليّة برمّتها تحتاج إلى الإصلاح، ولعل أوّل خطوة هي توسيع هيئة التفاوض السوريّة، وتضمين كلّ الأطراف والمكوّنات في العمليّة التفاوضيّة.

الخطوة الثانية هي تحرير العمليّة التفاوضيّة من الإطار النخبوي أو المركزي. وإلى جانب هذا الفعل التفاوضي في جنيف، يجب أن تكون العمليّة شاقوليّة، أقصد انخراط كلّ القوى والفعاليّات في هذه العمليّة، لتأخذ الشرعيّة أكثر، وأيضًا تسحب قضيّة الناس من يد بضعة أشخاص يتعاملون مع القضايا بمزاجيّة شخصيّة حينًا وبمقاربة المصالح غير السوريّة حينًا آخر. لذلك أرى أنّ الإفادات الأميركيّة الأخيرة هي الأقوى، وهي رسالة واضحة، ولا تشبه حتّى رسالة أميركا للنظام السوري ما بعد سقوط صدام حسين (مطالب كولن باول)، حينذاك طرح الأميركان مبدأ “التغيير في سلوك النظام “، واليوم الأميركان يرغبون في إحداث التغيير في بنية النظام، وذلك عبر تنفيذ القرار 2254، وآليّة البقاء على العقوبات. نحن أمام سيناريو أكثر حدّةً وفاعليّة، وسيكون قاسيًا على عموم سورية، لكنّه مُجدٍ.

أربع سيناريوهات ستحكمنا كلّنا، وهي:

– تقليص نفوذ محور آستانا.

– إصلاح العمليّة الدستوريّة.

– تحويل التفاوض وعمليّة الحوار، من كونها محصورة في هيئة التفاوض السوريّة والنظام، إلى قضيّة مجتمعيّة وسياسيّة، وذلك لتعزيز الثقة على مستوى الحواضن المجتمعيّة للمؤسّسات السياسيّة.

– مؤتمر سوري عامّ يقودنا إلى تحوّل ديمقراطي.

ولذلك، لا انتخابات رئاسيّة قادمة تعزّز شرعيّة للنظام، ولا غطاء سوتشي – آستانا، فنحن مقبلون على التغيير من رحم القرار الأممي لا غير.

سيناريوهات الحلّ في سورية في موازين كتّاب وناشطين ثوريّين (3/3)

    ثورة كردية: خلق معارضة ثوريّة هدفها الوحيد معالجة ألم الشارع

    إبراهيم البصري: أسئلة الهويّة الوطنيّة لبناء عقد اجتماعي مستدام

    بشار علي الحاج علي: ما الذي يجب توفره للحلّ؟

    أنس العلي: راهنيّة الحلّ السوري وجماعات الضغط

    سامر الخليوي: إسقاط المعارضات المزيفة واستقلاليّة القرار السوري..

    حمزة همكي: الحلّ في حال وضوح معالم إستراتيجيّة واشنطن في سورية

    خليفة الخضر: البحث عن القواسم المشتركة الجامعة لكلّ السوريّين

    شورش درويش: في الحاجة إلى طبعة جديدة للمعارضة

    عساف العساف: أسئلة ورهان واختراع العجلة من جديد

    محمد جلال: البحث عن الخلاص الفردي خارج الحدود..

    ياسر المسالمة: هل هناك حلّ سياسي في سورية؟

    عمار حمو: استعصاء الحلّ السياسي

    أحمد مظهر سعدو: المسألة السوريّة والعثار الكبير  

    مشعل العدوي: عدم تمسّك المعارضة بالقرار 22554 تفريط مُتعمّد بحقوق السوريّين

بعد اندلاع الثورة السوريّة، في آذار/ مارس 2011، التي طالبت برحيل بشار الأسد وأركان نظامه الاستبدادي الطائفي الفاسد، دفع أحرار سورية وحرائرها -على مدار السنوات العشر الماضية- أثمانًا باهظة على درب الآلام والجُلجُلة نحو الحرّيّة والديمقراطيّة وبناء دولة القانون والمواطنة.

أثمانٌ وثّقتها (الشبكة السوريّة لحقوق الإنسان) في تقريرها الصادر بمناسبة الذكرى العاشرة لانطلاق الثورة، والذي أكّد مقتل 227413 مدنيًّا، بينهم 14506 بسبب التعذيب، واعتقال/ إخفاء قسري 149361 شخصًا، وتشريد نحو 13 مليون سوري، وأكثر من 12 مليون يكابدون المشقات لتأمين قوتهم اليومي، وعيش أكثر من مليوني إنسان في فقر مدقع، وغير ذلك من المآسي والخسائر البشريّة والاقتصاديّة، ودمار نسبة كبيرة من العمران والبنية التحتيّة التي خلّفها الإرهاب الأسدي – الروسي – الإيراني.

ومع تزايد التعقيدات في الملفّ السوري، في ظلِّ غياب الحلّ السياسي وتواصل الصراع العسكري على امتداد الجغرافيا السوريّة الممزّقة، وبعد أن صارت البلاد مسرحًا لموسكو لاستعراض القوّة طمعًا في استعادة دورها الدولي بوصفها قطبًا عالميًا، واستخدام الأرض السوريّة وما عليها حقل تجارب لتحسين أداء أسلحتها الفتاكة وجعلها معرضًا دائمًا لبيع أسلحتها الجديدة، فضلًا عن انسداد أفق الحلّ السياسي وتكاثر الدول المتداخلة في الشأن الداخلي السوريّ، إذ يقبع رأس النظام تحت الحماية الروسيّة والإيرانيّة، وتتبع المعارضة السوريّة، بل المعارضات لحكومات إقليميّة دوليّة، ما يؤكّد عجزها عن اتّخاذ قرار سياسي موحّد بلا وصاية خارجيّة، بالتزامن مع عدم تحقيق اللجنة الدستوريّة أيّ تقدّم ملموس على الأرض، وإبقاء القرار الأممي 2254، القاضي بتشكيل هيئة حكم انتقاليّة في سورية (صدر عن مجلس الأمن الدولي في 2015)، مجمّدًا بفعل التدخّلات الخارجيّة، والتلاعب الأسدي الروسي في المحافل الدوليّة، وكذلك انتشار أنباء عن تشكيل (مجلس عسكري انتقالي) مشترك بين النظام والمعارضة بوصفه حلًّا بديلًا، وأمام غياب خريطة طريق وبرنامج تنفيذي وآليّات واضحة، وضمانات دوليّة ملزمة للوصول إلى حلّ يقبل به الشعب السوري الثائر؛ تفشّت في صفوف السوريّين حالة من اليأس الشعبي العامّ من إمكانيّة إصلاح النظام، والتخلّص من الاستبداد والفساد عن طريق التغيير السلمي الديمقراطي المتدرّج، مع هذا كلّه، يواصل مركز حرمون للدراسات المعاصرة، والثورة دخلت عامها الحادي عشر، الملفّ الخاصّ بسيناريوهات الحلّ في سورية، في ظلِّ فشل العمليّة السياسيّة والبدء بمهزلة الانتخابات الرئاسيّة التي خطط لها الروس ورأس النظام لتكون على مقاس بشار الأسد، فكان أن استضفنا في هذا الجزء عددًا من الكتّاب السياسيّين والناشطين الثوريّين، بعد أن كنّا استضفنا في الجزء الثاني عددًا من قيادات العمل السياسي والخبراء الإستراتيجيّين من مختلف الأجيال والمكوّنات السوريّة، وقبله استضفنا (في الجزء الأوّل) مجموعة من الكتّاب والمحلّلين السياسيّين السوريّين المنتشرين في أصقاع الأرض بعد أن شتّتهم الإرهاب الأسدي المتحالف مع الاستبداد الديني، وذلك للوقوف على طروحاتهم ورؤاهم للحلّ الذي ينتظره السوريّون الذين ذاقوا مرارة الحرب ووحشيّة نظام البراميل وحلفائه، طلبًا للخلاص من آل الأسد، ونيل الحرّيّة والكرامة، ونقل بلدهم من بلد يحكمه الاستبداد إلى بلد ديمقراطي تعدّدي.

    الناشطة الثوريّة السياسيّة ثورة كردية: خلق معارضة ثوريّة هدفها الوحيد ألم الشارع

قبل الحديث عن الحلول الإستراتيجيّة للقضيّة السوريّة وليس الأزمة السوريّة؛ لا بدّ لنا من عرض مشهد السّاحة السوريّة والأسباب التي زادت الأمور تعقيدًا. منذ أن صدحت حناجر الثوار والثائرات بكلمة “حرّيّة”، وهتفنا “الشعب السوري واحد”، كنّا نريد التغيير السلمي الديمقراطي للجميع… التغيير الذي لا يستثني فئةً ولا مذهبًا ولا قوميّةً…

استخدم بشار الأسد الحلّ الأمني والعسكري بدءًا من الاعتقال والقتل اليومي، إلى حصار المدن وتهجير أهلها بين الخارج والداخل. بعد عشر سنين ونيّف، ما زلنا نقف داخل نفقٍ مظلمٍ في ظلِّ غطرسة الأسد وضعف موقف المعارضة وانقسامها. في الحقيقة هناك العديد من العوامل والأسباب التي أدّت إلى انسداد أفق الحلّ السياسي وفشل المجتمع الدولي في الوصول إلى حلٍّ حتى الآن، وأهمّ أسباب هذا الفشل: تعنّتُ النظام الأسدي؛ ملفّ المعتقلين والمختفيّين قسرًا؛ مشكلة اللاجئين والمهجّرين؛ أزمة المخيّمات؛ ومشكلة الفصائل المسلّحة. إضافة إلى انقسام المجتمع الدولي وتضارب المصالح على أرض سورية، فروسيا وإيران تدعمان نظام الأسد، ولا يُتَوقّعُ حدوث تغييرٍ جدِّيٍّ في موقفهما، على الرغم من تباين مشروعهما في سورية، ذلك أنّ روسيا تريد تعويم الأسد واستفرادها في قرار الانتخابات، لاعتقادها أنّ موقفها سيكون أقوى بعد نجاح الأسد في ترتيبات الحلِّ السياسيّ. أمّا إيران فتسعى إلى إحداث تغيير ديموغرافي لبنية الشعب السوريّ. بينما الولايات المتّحدة الأميركية غير مهتمّة حاليًّا بإيجاد حلٍّ جذري للقضيّة السوريّة إلّا من خلال مصالحها، وإدارة جو بايدن الجديدة يُعتبر دورها استكمالًا لدور الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما الذي ساهم في بقاء الأسد على سدّة الحكم. إضافةً إلى مقايضة المسألة السوريّة بالملفِّ النووي الإيراني، على حساب الشعب السوريّ، ولو أرادت إيجاد حلٍّ لأنهت النزيف السوري، ومع هذا، العَلم الأميركي يرفرف فوق مناطق النفط في شرق الفرات، إضافةً إلى تقديم الدعم لمشروع الإدارة الذاتيّة الكرديّة. أما تركيا فجلّ همِّها أمنها القومي وحماية حدودها من التمدّد الكردي، إذ تسعى لمنع قيام كيانٍ كردي وإبعاد خطر (PKK) عن الداخل التركي.

دول الاتّحاد الأوروبي لا تزال تتعاطى مع الآثار الناتجة عن الثورة السوريّة بما يخصّ قضيّة اللاجئين والإرهاب، ولم يكن لها موقف سياسي متقدِّم في معالجة أصل القضيّة السوريّة وفق قرارات جنيف والقرارات الدوليّة المتعلّقة بهذا الشأن. ولا ننسى الدّور الخفي لإسرائيل في إبقاء بشار الأسد في سدّة الحكم، وما يحدث بين النظام السوري وإسرائيل من اتّفاقاتٍ تحت الطاولة. الدول العربيّة لا يزال موقفها متباينًا: منها من يسعى لتعويم الأسد بسبب مصالح مشتركةٍ بينية، ومنها من يسعى إلى رحيله. القفز على مقرّرات جنيف 2254 و2118 وتجميد الروس لها، والاستعاضة عنها بمُخرِجات مؤتمر آستانا يضمن عمليّة انتقال سياسيّة تحافظ على نظام الأسد، مع مشاركة أجزاء من المعارضة في الحكم.. تشظّي المعارضة وعدم بناء قوّة واحدة تتكلّم باسم الشعب السوري وتضغط على المجتمع الدولي.

فما الحلّ؟ إنّ المسارات السياسيّة والعسكريّة في أستانا وسوتشي واللجنة الدستوريّة وهيئة التفاوض أثبتت فشلها، ولن تُؤتي أُكلها. لذلك فإنّ الحلّ لن يكون إلّا باعتماد مُخرِجات مؤتمر جنيف، وخاصّة 2254 و2118، وفق القرارات الواردة فيها، وأهمّ بند هو إطلاق سراح جميع المعتقلين والكشف عن مصير المغيبين قسريًا، وأيضًا الكشف عن المقابر الجماعية للآلاف من الشهداء الّذين قضوا تحت التعذيب. ولن يكون الحلّ إلّا عن طريق خلق معارضة ثوريّة هدفها الوحيد معالجة ألم الشارع، وأن تعمل هذه المعارضة على كسب ثقة السوريّين، وثقة المجتمع الدولي، وأن يكون عملها فقط موجّهًا للشأن السوري العامّ، لا أن يكون هدفها المصالح الشخصيّة، كما هي حال مكوّنات المعارضة الحاليّة.

بعد كلّ هذا النزيف السوري، هل بقي لدينا أملٌ لإيجاد حلٍّ لقضيّتنا السوريّة والاستمرار في النضال من أجل الانتقال بسورية إلى دولة مواطنة؟ إنّ الإجابة عن هذا السؤال صعبةٌ، بخاصّةً أنّني أرى المشهد قاتمًا، ولكن بالرغم من هذا السواد، فإنني -كناشطة ثوريّة وسياسيّة- لن أفقد الأمل، طالما أنّ التاريخ أثبت لنا أنّ هناك شعوبًا ناضلت لعشرات السنين وبالنهاية ربحت قضيتها. هذه الثورة العظيمة لن تموت، وأطفالنا سيحملون الراية من بعدنا، إن لم نستطع نحن.

    الناشط الثوري إبراهيم البصري: أسئلة الهويّة الوطنيّة لبناء عقد اجتماعي مستدام

يحلم كثير من السوريّين بحدوث ما لم يكن يخطر على بال محلّلٍ أو مُتوقِّع، بحدثٍ يغيّر الحالة الراهنة في سورية، حدث يكون ربّما اقتتالًا يشتعل فجأة في الدائرة الداخليّة للأسد وأعوانه، أو ربّما حربًا إقليميّة يكون خلاص السوريّين فيها حركة على رقعة المواجهة بين أطرافها، أو انقلابًا على نظام أحد اللاعبين الإقليميّين، يكون المُنقلِب فيه -بمحض الصدفة- ذا قلب يشفق على أرواح السوريّين، فيصدقهم القول والدعم ولا يأخذهم ورقة في لعبة المصالح. ولا ملامة عليهم، إذ يحلمون وهم أمام واقع لم يرحمهم سُدّت فيه آفاق الحلّ، واقع لا تسع وصفه هذه العجالة، إنّما يسعها ربّما أن تجيب -ولو جزئيًّا- عن السؤال الملح: ما هي النهاية وما الحلّ؟

قبل أن أحاول الإجابة، لا بدّ من المرور على بعض الطروحات الأخيرة، ومفادها أنّ الحلّ السياسي للصراع يجب أن يتضمن في ما يتضمن أجوبة عميقة لأسئلة الهويّة الوطنيّة، وأساسًا لبناء عقد اجتماعي مستدام في سورية، طروحات تُحمّل “الحلّ” بمعناه العمليّاتي المرحلي ما لا يحتمل؛ وكأن سورية في هدنة مستدامة أغلق ملفّ معتقليها وأوقف فيها سفك الدماء وأمن المدنيون فيها على أرواحهم ووصول المساعدات إليهم وأمسوا في عدّة تسمح لهم انتظار إجابات هذه الأسئلة، وإن كانت هذه الطروحات تتأتى من انحراف مسار التفاوض الأساسي عن “بيان جنيف” 2012 والقرار الأممي رقم 2254، باتّجاه سلّة واحدة من سِلال المبعوث الأممي الخاصّ السابق إلى سورية ستافان ديمستورا، التي جعلها الروس أولوية المسار وهدفه، إلّا أنّها يجب أن لا تكون موافقة على هذا الانحراف، وكأن لدينا ترف الوقت لنناقش ما لم يُناقش من قبل انقضاض (حزب البعث) على السلطة، أو كأنّنا نقول إنّ السوريّين دفعوا كلّ هذا الثمن ليغيّروا فقط ما كُتب في ورق الدستور، وليس لاستعادة كيان الدولة المختطف منهم ككلّ.

إنّ اشتراط الإجابة على هذه الأسئلة، كنقطة لانطلاق مسار الحلّ، إنّما هو إطالة لعمر معاناة اللاجئين في خيام باردة، والمعتقلين في زنازين مظلمة، خصوصًا أنّ جوارنا العربي (العراق ولبنان والأردن) لم يجدوا إلى الآن إجابات مرضيّة للجميع على هذه الأسئلة، حتّى حين تذوقوا الديمقراطيّة وملكوا بيئة الحوار الخالية نسبيًّا من الخوف بعد حرب أو غزو.

عودة إلى سؤال الحلّ/ النهاية: ما أصبح مستحيلًا هو الحلّ العسكري، أو إعادة الاعتراف بالنظام دوليًّا، وما يكاد يكون مستحيلًا عند أيّ محاولة للتكهّن في شكل هذه النهاية هو: استمرار الوضع القائم منذ سنوات، وذلك لتقلّب مستمرٍّ في الارتباطات السياسيّة إقليميًّا، ولعدم استقرار مصالح اللاعبين الأساسيّين. أو التطبيق الحرفي للقرار 2254، وفق تراتبية خطواته، لأنّ ذلك يعني إلغاء اللجنة الدستوريّة والمسار الذي اقترحته موسكو وأصرّت عليه، مع بقاء إمكانيّة تشغيل السِّلال الأربع في وقت واحد للوصول إلى جولات تفاوض يمكن الاعتماد على مُخرِجاتها لتفعيل القرار. ويُستبعد أيضًا سيناريو الأقاليم الثلاثة المنفصلة في القرار المجتمعة شكليًّا في دولة بما يشرعن وجود الاحتلالات المتعدّدة، لأنّ هذا السيناريو سيعود بالأطراف الفاعلة إلى مربع ما قبل القرار الأممي، وبالتالي يفرض ضرورة تغيير جذري في شكل تمثيل الأطراف السوريّة المتنازعة، وهدم عنصر الدول الضامنة الذي أعطى لوقف إطلاق النار تماسّكه حتّى الآن، فتركيا مثلًا لن تقبل بمقعد علني لقوّات سوريا الديمقراطيّة (قسد) على طاولة التفاوض، مهما كلفها ذلك.

من نافل القول إنّ الحلّ ارتبط ارتباطًا لا فِكاك منه بالقرار الدولي، وأنّ أطراف الصراع السوريّة لن تستطيع تحقيق معجزة التقدّم ولو خطوة بعيدًا عن أهواء اللاعبين الدوليّين، مهما كانت أدواتها ومهما عصفت بأذهانها وبادرت بأفكارها. ومن نافله أيضًا أنّ النظام راهن على الوقت والتفاصيل منذ بداية الأمر، إلّا أنّه الآن لم يعد المراهن الوحيد عليه، فالمعارضة السوريّة -بعد أن فقدت الأمل في رفع المسألة على سلم أولويّات المجتمع الدولي- أصبحت ترى في العقوبات الغربيّة أملًا وحيدًا، وإنْ كانت نتائجها تعتمد على عامل الوقت، خصوصًا أنّ العقوبات المفروضة لم تكن في صيغتها وتنفيذها كتلك التي فُرضت على الأسد الأب في ثمانينيات القرن الماضي، قابلة للإبطال عند التزام المُعاقَب بشروط وأجندات، بل هي الآن دائمة تجعله منبوذًا دبلوماسيًّا إلى الأبد، وتجعل من آمال موسكو في إعادة تعويمه محض شقاء لا منفعة منه، وخصوصًا أيضًا أنّ هذه العقوبات ما زالت تأتي تباعًا من بعض دول الغرب، وإنْ كفّ بشار الأسد الآن ظاهريًّا عن القيام بما جلبها عليه.

 إنّ المسألة السوريّة، بسبب أنّها أصبحت عدّة قضايا متداخلةً متراكبة، بعضها كان عظيم العواقب لدرجة جعلت من المسألة تفصيلًا فيها ليس أكثر كتوتّر العلاقات الأميركيّة – الروسيّة، وبعضها تعلّق فيها بشكلٍ أساسي وأمسى حلّ إحداها جزءًا في حلِّ الأخرى كما الحال بين التنظيمات الكرديّة في سورية وحكومة تركيا، أو أزمة لبنان.. إلخ، بسبب هذا كلّه يبدو الحلّ الأسلم والأكثر منطقيّة هو محاولة إيجاد حلول لكلّ قضيّة على حدة عقدةً عقدة، أو حتّى فك هذه الارتباط الشرطي بين كلٍّ منها وإن كان الأمر يبدو مستحيلًا، وما يجب الإصرار عليه أمام كلّ الأطراف، وعلى كلّ طاولة تفاوض مركزيّة أو فرعية، هو التأكيد على أنّ الأسد وطغمته أساس المشكلة ووقود استمرارها، لذا فإنّ الحلّ -تعريفًا- لا يسمّى حلًّا إلّا بزواله ولو بشكلٍ تدريجي، ولا نجاح لخارطة طريق أو مسار تفاوضي لا يفضي إلى ذلك في إحدى المراحل.

أميركيًّا، لم تحرك الإدارة الجديدة ساكنًا حول سورية بالمعنى العملي، ولم توضح إذا ما كانت تتبنى إستراتيجيّة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما كاملة حيال الملفّ، وإن أشارت إلى أنّها ستستمرّ بدعم (قسد)، إلّا أنّ هذا يبقى تفصيلًا ضروريًّا لوجود قوّاتها في شرق الفرات. وحتّى إذا افترضنا تبنيها لنهج أوباما، إلّا أنّ أملًا في تغيير هذا النهج يبقى مختبئًا في أروقتها، خصوصًا في حقائب موظفي الصف الثاني ومستشاريها وممثّليها في المحافل الدوليّة، فكما ظهر للعلن لاحقًا، كان خلافًا عميقًا في الرأي حول سورية بين أوباما ومرؤوسيه من أعضاء فريق السياسة الخارجيّة دفع هؤلاء إلى الإبقاء على محاولاتهم في إقناعه بزيادة الضغط لصالح السوريّين حتّى الأشهر الأخيرة لولايته الثانية. فربّما هو الحال مع من اختارهم الرئيس الحالي وهم ليسوا مختلفين عمن اختارهم أوباما وفقًا لتقارير الأداء.

عمومًا لا يمكننا تخيّل أيّ إدارة أميركيّة لا تستمتع بما وصل إليه في سورية حال موسكو أمام واشنطن، حال من يريد ولا يقدر أمام من يقدر ولا يريد، ويكفي أن تُبقي واشنطن جنديًا واحدًا لها في سورية وقرارًا واحدًا من سلسلة عقوباتها لتجعل من أنّ أيّ جهد تبذله موسكو في حلٍّ عسكري أو إعادة إعمار أو إعادة اعتراف دبلوماسي للأسد هباءً منثورًا. وما يمكن أن يزيد موسكو وطهران شقاءً هو الأنباء عن مسار آخر يولد من اتّفاق خليجي في الرؤى حول سورية، فيصبح عامل ضغط كبير على مراهنة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اللاواقعية في إبقاء الأسد ولو في المدى المنظور، ويستفز طهران لصبغته العربيّة البحتة أوّلًا إضافة إلى أنّه سيحتوي -إن صحّت الأنباء- على كلّ ما لا يرضيها.

كسوري لا يمكنني البقاء بعيدًا عن أقصى التفاؤل أو أقصى التشاؤم عند التفكير في سؤال الحلّ – النهاية ومحاولة توقّع مساراته، ولا يمكنني أو غيري من السوريّين الابتعاد عن التمنّي العاطفي عند أيّ استشراف للمستقبل، فنحن ضحايا الواقع والناجون في كلّ صورة وحال، ولا تغيب عن عيني أمام هذا السؤال لافتة قرأتها عام 2011 في إحدى مظاهرات الثورة، حيث كتب: “ما يحدث في سورية ليس أزمة، بل هو حلٌّ لأزمة استمرّت أربعين عامًا”؛ ردًا على وصف إعلام النظام للثورة بأنّها “أزمة”، فكلمات هذه اللافتة لم تفقد معناها البعيد بعد عشر سنوات سدّ فيها الأسد كلّ طريق آمن لبناء سورية دولة عادلة وديمقراطيّة، حتّى لو اضطّرّ السوريّون إلى قبول “حلّ سياسي” مؤقّت لا يرقى إلى ما تطلّعوا وسَعَوا من أجله خلال ثورتهم، فلا حلّ إلّا هم أنفسهم، في أنّهم لن يقبلوا في نهاية هذا الأمر إلّا بسورية تُحفظ لهم فيها كرامتهم وحرّيّتهم مهما طال زمن الطغيان ومهما ظنّ الباغي الظنون أنّه نجا.

    الكاتب والدبلوماسي السابق بشار علي الحاج علي: ما الذي يجب توفره للحلّ؟

القضيّة السوريّة ليست حالة سوريّة فقط بل هي واحدة من الملفّات الدوليّة المتداخلة، ولا يمكننا تجاوز العامل الدولي، ولكن لا يجب أن ننتظر من الدول أن تقدّم لنا الحلّ، ولهذا لا بدّ من المزاوجة بين ما أفرزه الصراع (هيئات وأجسام ومناطق نفوذ)، وبين ما يضعنا على الخطوة الصحيحة الأولى كسوريّين.

وذلك برأيي من خلال ما يلي:

أوّلًا- التمسّك بالقرارات الدوليّة والتحرك لتنفيذها، حيث إنّها الضمانة للحدّ الأدنى لحقوق الشعب السوري في التغيير وتحقيق حرّيّته وكرامته.

ثانيًا- الطلب من مجلس الأمن إيجاد آليّة ملزمة لتنفيذ القرارات الدوليّة المتعلّقة بالحلّ في سورية، ورفع مستوى التفويض للمبعوث الدولي، ليكون قادرًا على نسبة التعطيل لمن يقوم به بعيدًا عن الدبلوماسيّة. وإجبار النظام على الإفراج الفوري عن المعتقلين.

ثالثًا- إعادة تشكيل هيئة التفاوض وتوسيع تمثيلها بما يشمل شمال شرق سورية، حيث إنّها مثّلت قوى الثورة والمعارضة في القرارات الأممية بخاصّة في الاتّفاق السياسي الذي أفضى إلى تشكيل اللجنة الدستوريّة.

رابعًا- سورية بحاجة إلى دستور جديد، واللجنة الدستوريّة مهمّة وضروريّة، إلّا أنّه يجب تغيير هدف عملها من إعداد مسودة دستور إلى (إعلان دستوري) أو (دستور مؤقّت) خاصّة مع مماطلة النظام ومرور أكثر من سنة ونصف من تشكليها، وتحديد مدّة لا تزيد عن ثلاثة أشهر للإنجاز، وترك قضيّة إعداد دستور جديد إلى المرحلة الانتقالية.

خامسًا- التحضير لتشكيل هيئة/ مجلس (حكم انتقالي) من مكوّنات هيئة التفاوض بعد إعادة تشكيلها، وتشكيل نواة مجلس عسكري وأمني تحت سلطة هيئة الحكم الانتقالي، ويضم فيه ممثّلين عن الضباط المنشقين من الجيش والقوى الأمنيّة وضباط الداخليّة والفصائل المسلّحة.

سادسًا- العمل على جمع القوى السياسيّة السوريّة في كتل وتحالفات قادرة على أن تكون الحامل السياسي الوطني، والتفريق ببينها وبين الأجسام السياسيّة الرسمية (من هيئة التفاوض، الائتلاف الوطني، اللجنة الدستوريّة). فهذه الأجسام تمثيليّة يمكن أن تكون أدوات في إنتاج الحلّ السياسي، لكننا بحاجة إلى قوى سياسيّة وازنة على المستوى الوطني لتكون قادرة على حمل التغيير والعمل عليه.

سابعًا- لا أعتقد نجاح أيّ حلٍّ دون قبول السوريّين به، وهنا يمكن القول إنّ السوريّين الذين طالبوا بالتغيير ودفعوا ثمنه وأصبحوا أحرارًا لا يمكن أن يرضخوا لأيّ حلٍّ لا يلبّي الحدّ الأدنى من تطلّعاتهم، وهذه ليست أمنيّة، بل واقع تثبته مناطق التسويات مثال مدن وقرى ريف دمشق وحوران الأقرب إلى العاصمة. وهذا يقودنا إلى قضيّة التعويم، فالأنظمة القمعيّة تستمدّ “شرعيّة” وجودها من قوّتها وسيطرتها، وهو السبب الذي يجعلها غير قادرة على تأمين مصالح الداعمين، وأما الارتهان الإيراني الروسي، فهو مؤقّت لتحقيق بعض المكاسب التي يسعون لتحقيقها من خلال التدخّل العسكري وكل أشكال الدعم الأخرى. لا يمكن إعادة تعويم النظام، عربيًّا ودوليًّا، والمحاولات في هذا السياق لا تخرج عن مناورات القصدُ منها البقاء عند السقف السياسي التفاوضي، في ظلِّ تجاهل أميركي ليس لأنّ القضيّة السوريّة ليست أولوية لإدارة الرئيس جو بايدن، بل لأنّ السياسة الأميركيّة في سورية تستهدف الاستنزاف للقوى المتدخلة مع وضع مناطق ارتكاز وقدرة على التحرك عند الحاجة.

ولا يخفَى على المتابعين أن المحاولة الروسيّة الأخيرة في الجولة الخليجيّة كانت محاولة لإعادة نظام السلطة الحاكمة إلى جامعة الدول العربيّة، أو تقديم طرح جديد يغيّر من وضع النظام المحاصر، الذي لا تجرؤ الدول على مخالفة العقوبات الأميركيّة المعروفة بــ “قانون قيصر” حتّى روسيا وإيران حلفاء النظام وشركاؤه. وفي السياق نفسه، حول تعويم النظام، جاء تصريح رئيس مفوضية الاتّحاد الأوروبي حول اشتراط تطبيق القرار الأممي 2254 لتمويل إعادة الإعمار واضحًا.

أما قضيّة الانتخابات الرئاسية المزمع عقدها يوم 26 من الشهر الجاري، فلن نخوض في شرعيتها حيث إنّنا لا نعترف بهذا النظام ككلّ، وبرأيي، هي ليست ذات أهمّيّة ولم ننتظر غير ذلك من نظام دمّر البلد وهجّر وقتل وعذب واعتقل الشعب السوريّ، ليس هذا فحسب فليس لدى النظام وداعميه سوى هذه الورقة المحروقة للتلويح بها، كما حصل في عام 2014، حيث تمّت الانتخابات وبقي النظام لكنّه لم ينتصر، وما كان يعزى للحرب من نقص في الخدمات وانعدام الأمن وتوقف وظائف الدولة هو بازدياد بدونها حتّى أوشكت على الإفلاس من كلّ النواحي.

ومع تصاعد التوترات في أوكرانيا وبدء مفاوضات فيينا مع إيران، تبدو ارتباطات القضيّة السوريّة جليّة بهذه الملفّات، والتأثير عليها لا بدّ أن ينعكس سلبًا أو إيجابًا، مع تقديري أنّه سيكون إيجابيًّا لأسباب موضوعيّة، منها أنّ الواقع الميداني في سورية تمّ تجميده إلى حدٍّ كبير، ولم يعد هناك أيّ إمكانيّة ولا فائدة لتغييره؛ ازدياد أعباء وتكاليف التواجد العسكري الروسي والإيراني في ظلِّ العقوبات المفروضة على كلٍّ منها؛ حالة شبه الإفلاس لحكومة النظام وانهيار الليرة السورية، فهو غير قادر على تحمّل هذه الأعباء، ناهيك عن أزمة المحروقات والخدمات والمواد الغذائية. باختصار: يمكن وصف وضع نظام العصابة الحاكمة بوضع المريض الميئوس منه، والذي يرقد في حجرة الإنعاش بانتظار قرار نزع الأجهزة عنه ودفنه.

    الكاتب الصحفي أنس العلي: راهنيّة الحلّ السوري وجماعات الضغط

تنبأ كثيرون بأنّ بشار الأسد سيسقط تحت ضغط الشارع بعد أسابيع من بدء الثورة ضدّه، منتصف آذار/ مارس 2011، وقد تداعت أعمدة حكم ثلاثة رؤساء عرب قبله، لكن ما جرى كان عكس رياح التغيير، إذ بقي محتفظًا بمنصبه لدورتين رئاسيتين، والآن يتحضّر لثالثة. حيث تقاطعت العوامل الداخليّة التي من أعقدها تحكّمه في المؤسّستين الأمنيّة والعسكريّة، مع الخارجيّة وعلى رأسها تلكؤ الغرب في استخدام قرارٍ قويّ ضدّه، مقابل دعم عسكري متواصل إيراني وروسي. كلّ ذلك محمولٌ على استثمار عامل الوقت المشهود لعائلة الأسد التي تحكم سورية منذ أكثر من نصف قرن. وكلّ ذلك لم يجعل النظام يتراجع أيّ خطوة إلى الوراء وظل متمسّكًا بكلِّ مواقفه من دون أيّ تعديل، ومسترجعًا بالقوّة العسكريّة المفرطة معظم الأراضي السوريّة التي كانت خارج سيطرته، ليرتسم بعد عشر سنوات انسداد أفق سياسي سوري ودولي لحلّ يخرج سورية من محنتها. فنكصت بعض أطراف المعارضة عن فكرة إسقاط النظام والذهاب إلى المرحلة الانتقالية وهيئة حكمها. وتبدّى هذا النكوص في منحيين: أوّلهما البحث في أروقة القاتل الروسي عن حلٍّ يُقنع بالتخلّي عن الأسد، من خلال زيارات بعض شخصيّات المعارضة وما يرافقها من موجة تصريحات عريضة لا تجد لها أيّ أساس في واقع التعاطي العملي للروس مع نظام الأسد، بل الحقيقة عكس ذلك تمامًا، فقد ذهب وفدٌ روسي لزيارة مدينة بصرى الشام في محافظة درعا، مطالبين الأهالي بالخروج في مسيرات تأييد لترشّح الأسد ولو كان عدد المشاركين قليلًا، مقابل تحسين بعض الخدمات فيها، لكن طلبهم قوبل بالرفض التامّ؛ وثانيهما أكثرُ غرابة من الأوّل، لأنّه لا يستند إلى معطيات ملموسة، وتجلّى ظهوره مع منتصف عام 2020، بتصريحات تنافسيّة بين عدد من المعارضين السوريّين منقولة عن مواقع التواصل الاجتماعي لشخصيّات إسرائيليّة غير فاعلة، تؤكّد أنّ بشار الأسد لن يترشّح، وأن هناك ترتيب جدول زمني لخروجه من سورية مع بداية 2021. وهنا إشكاليّة نفسيّة اجتماعيّة أكبر من فكرة رهانات حلّ تنهي نظامًا يقتل شعبه، تتلخّص في أنّ تنافسًا بين الطرفيين (الموالاة والمعارضة) على أيّ منهما يكون أكثر طاعة لإسرائيل، هذا ارتداده كبير على جيل شاب يبحث عن الحرّيّة والديمقراطيّة واستقلال قراره الوطني.

أحد أسباب تكرار الحديث عن التوجّه نحو إسرائيل هو تذبذب الموقف الأميركي من الثورة السوريّة وخطوطه الحمراء، ومنذ وصول جو بايدن للرئاسة، تشي كلّ المؤشرات بأنّه سيتابع في سياسة باراك أوباما مع المحافظة على ما أنجزته إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب لجهة “قانون قيصر” وعقوباته الضاغطة. ويدرك الأسد أن لا ضمانة تخفف عنه الضغط الأميركي إلّا إسرائيل، وهنا تحضر روسيا لتكون همزة الوصل في ملفّ التطبيع. وبالمقابل، تعامل المجتمع الدولي مع أكبر أجسام المعارضة (الائتلاف، وهيئة التفاوض، واللجنة الدستوريّة) بتشاركيّة في تنازلات المفاوضات لتثبيت الوضع لصالح النظام. فعندما يقرُّ المبعوث الأممي إلى سورية غير بيدرسون في لقائه مع (غرفة المجتمع المدني) أنّ العمل في اللجنة الدستوريّة ليس مرتبطًا بانتخابات رأس النظام، فهذا تأكيد فعلي أنّ العالم لا يريد إيقاف المجزرة. وهنا اُستخدِمَت المعارضة كمعادل موضوعي لبقائه.

في سياق البحث عن منافذ لمرور الضوء نحو الظلمة السوريّة، حاول أكثر من فريق أن يشتغل خلال الفترة الأخيرة على فكرة (مشروع وطني سوري)، طبعًا لكلّ فريق توجّهه ومعطيات عمله من خلال الخلفيّات التي ينطلق منها، ولكن ما ينشده السوريّون منذ 2011 لمشروع سوري وطني جامع أصبح أكثر صعوبة ممّا سبق، من حيث البنية والتشبيك والتمكين. وهنا يفترض أن يكون العكس، لأنّ التجربة صارت طويلة وعوامل الالتقاء الوطني أكثر من الاختلاف، لكن تبرز معضلتان إحداهما ذاتية والأخرى موضوعية؛ الذاتيّة في أنّ مقدّمي المشروع يصبحون ملاّكًا للحقيقة المطلقة ومخلّصين للناس من أوجاعهم؛ والموضوعيّة في ضعف قناعة الشارع السوري بجدوى إعلان هذه المشاريع، بل إنّها لن تصل إلى العالم لتكون بدائل منطقيّة عن العبث القائم.

أكثر ما احتاجت إليه الحالة السوريّة على امتداد سنواتها هو وجود جماعات الضغط “اللوبي”، وهي مجموعة الأفراد أو المنظمات الذين يتشاركون في الاهتمامات والمصالح، حيث يحاولون التأثير في الحكومات وفي آراء الأفراد؛ من أجل إقناع السلطات المعنية بإجراء تغيير في السياسة العامّة، بهدف كسب منافع لمصالحهم أو قضاياهم التي يتبنونها. وما تُرجم عمليًّا لمرّة واحدة في عمل جماعات الضغط هو “قانون قيصر”، الذي ثبّت عدالة قضايا المعتقلين وجرائم التصفية التي نالتهم في سجون الأسد، من خلال دلائل دامغة تحمّله المسؤوليّة وتطالب بمحاسبته وتجريمه.

بغياب الفعل السياسي للأحزاب، يصبح عمل جماعة الضغط السوريّة والمتحالفة مع الآخر الدولي محقّقًا للغاية التي ينشدها المجتمع السوري في الحرّيّة والخلاص. وأيضًا جماعة الضغط يمكن أن تكون تدريبًا في صناعة تنشئة سياسيّة مستقبليّة في بلدٍ فقد السياسة طوال عقود، ولا يستطيع استعادتها في هذه الظروف الصعبة. وقد وضع العالم الغربي الأسدَ بين منزلتين، فلا هو مُعاد بتأهيل ولا هم بمسقطيه. أخيرًا؛ يجب علينا العمل على دعم كلّ جماعات الضغط التي تساند عدالة القضيّة السوريّة.

الكاتب والمحلّل السياسي سامر الخليوي: إسقاط المعارضات المزيفة واستقلاليّة القرار السوري..

القضيّة السوريّة تعقدت كثيرًا نتيجة طول المدّة ونتيجة التدخّلات الخارجيّة، حيث أصبحت سورية ساحة لتصفيّة الحسابات بين الدول، وأيضًا أصبحت ساحة لمساومات مصالح بين العديد من الدول ليس فقط في سورية بل في العديد من دول العالم، ولا ننسى ما حصل أيّام مفاوضات الملفّ النووي الإيراني مع أميركا والغرب عام 2015، حيث ساوم الرئيس أوباما على سورية لصالح إيران، من أجل أن يتمّ التوصّل معها إلى ذلك الاتّفاق. وأدّت التداخلات الدوليّة وتضارب المصالح إلى صعوبة الوصول إلى الحلّ السياسي، والذي مع كلِّ أسف ليس للنظام أو المعارضة دورٌ كبير فيه. وأعتقد أنّ الحلّ يمكن أن ينطلق من الولايات المتّحدة، إذا كانت هناك رغبة حقيقية وصادقة، وهي قادرة على ذلك إن أرادته فعلًا وحقيقة، كما فعلت في مناطق عدّة منها حرب البلقان حيث جلبت قادة الصراع إلى أميركا ووقعوا “اتّفاق دايتون” الذي أنهى الحرب. وما تقوم به أميركا حاليًّا هو إدارة للصراع وليس حلًّا له. لو كان هناك موقف أميركي صارم تجاه الأسد لما استطاع أن يستمرّ في ارتكاب جرائمه، ولولا الضوء الأخضر الأميركي والإسرائيلي لما استطاعت روسيا وإيران أن تتدخّلا لدعم الأسد، حيث يقع على الولايات المتّحدة الأميركيّة العبء الأكبر، وهي على المحك مجدّدًا لتثبت ما تبقى لها من مصداقية في الشأن السوري، وهو إجراء الأسد للانتخابات دون أن يلتزم بقرار مجلس الأمن 2254، حيث صرّحت أميركا والعديد من الدول الغربية بأنّ الانتخابات ستكون فاقدة للمصداقية والنزاهة وغير شرعيّة. فهل ستتجرأ أميركا والغرب على رفض الاعتراف بشرعيّة الأسد، بعد إجراء الانتخابات والتجديد لنفسه، وتعلّق عضويّة سورية في الأمم المتّحدة وتطرد ممثّل النظام؟ هذا ما ستجيب عنه الأيّام القادمة.

وبالعودة إلى أفق الحلّ السياسي في سورية، أعتقد أنه لن يكون بيد السوريّين معارضين وموالاة، وإنّما سيكون بتوافق دولي يراعي مصالح الدول المنخرطة في الشأن السوري، على حساب مصالح الشعب السوري، ولن يراعي الأهداف والمبادئ التي انطلقت من أجلها الثورة السوريّة، وسيكون لنا دور محدود بصياغة الحلّ السياسي، ما لم تكن هناك وحدة وطنيّة جامعة وشاملة تضع مصلحة الوطن كهدف للجميع، وهذا لن يتحقّق بوجود الأسد. ومن هنا؛ علينا أن نعمل على وحدة الصف -قدر المستطاع- وإبعاد الغالبيّة العظمى من الذين ادّعوا تمثيلهم للمعارضة والثورة السوريّة، وتقديم ممثّلين جدد وحيدين للثورة السوريّة، وإسقاط كلّ المعارضات المزيفة مثل منصّتي موسكو والقاهرة، والأمر الآخر المهم هو استقلاليّة القرار وعدم الخضوع لأيّ جهة، كما كان يحصل سابقًا. والشيء الأخير العملُ على وحدة الفصائل المسلّحة ودعمها وتسليحها، لتكون جاهزة لأيّ استحقاق مستقبلي. وأيضًا لكي تكون أداة ضغط على نظام الأسد من أجل القبول بحلٍّ سياسي، فالأسد لا يفهم إلّا لغة القوّة التي هي غير موجودة حاليًّا، ولا ننسى كلام وزير الخارجيّة السابق وليد المعلم (توفي في 16/11/2020)، الذي قال: “مالم نقدّمه بالسلاح لن نقدّمه بالمفاوضات”.

الصحفي حمزة همكي: الحلّ في حال وضوح معالم إستراتيجيّة واشنطن في سورية

لعلّ الحديث والبحث عن الحلول في سورية، كالذي يبحث عن إبرة في كومة قشّ، وبما أنّه لا يمكن الحديث عن حلٍّ آخر سوى الحلّ السياسي الذي تطرحه وتصرُّ عليه القوى الدوليّة الفاعلة في البلد، فإنّ أيّ حديث عن حلٍّ قريب يبدو بعيد المنال، على الأقلّ في المدى المنظور. ذلك لأنّ المصرّين على الحلّ السياسي لم يدعموا الأطراف المحلّيّة دبلوماسيًّا بهدف خلق توازن بين أطراف النزاع على الأقلّ، بل على العكس فقد تمّت عمليّة إفراغ المعارضات من مضامينها، وأصبحت رهينة لأجندات إقليميّة ودوليّة.

في هذه الأثناء، ربّما يكون أفضل عملٍ يمكن أن تقوم به الأطراف من معارضة خارجيّة وداخليّة، بمختلف توجّهاتها، هو الجلوس على طاولة الحوار لخلق مناخات وأرضيّة قابلة للبناء عليها، حين تتوفّر النيّة الدوليّة لحلّ مستدام. وللتوصّل إلى هذا يجب عدم إقصاء أيّ طرف له تأثير على الأرض، أو حتّى تلك التي لها تأثير سياسي، وإن لم تكن تملك القوّة العسكريّة على الأرض. وإن الحدّ من تدخّل الدول الإقليميّة كتركيا وحق (الفيتو) المفروض من قبلها على مشاركة مجلس سوريا الديمقراطيّة (مسد) بحجّة تبعيتها لـ (حزب العمال الكردستاني)، سيسهل هذا الحدّ، لو تمّ إنجاح هذه الفكرة. وعلى الرغم من رومانسيّة هذا الطرح وفق المعطيات والظروف القائمة، فإنّ التركيز على لملمة جراح الأطراف والمعارضات هو أقصى ما يمكن القيام به في هذا الوقت، على الأقلّ لانتزاع ثقة الشارع مجدّدًا.

من جهة أخرى، فإنّ عمل موسكو على تعويم وإعادة تدوير النظام بهذه الصورة الفجّة، عبر مهزلة الانتخابات الرئاسيّة، ما هو إلّا وقوف عند رغبة باقي الأطراف الدوليّة والإقليميّة ذات الصلة المباشرة بالملفّ السوريّ. وما دام الحلّ النهائي بعيدًا، فإنّنا سنشهد المزيد من هذه المهازل الدبلوماسيّة الدوليّة القائمة في سورية. المشكلة ربّما لا تكمن في تعويم النظام بحدِّ ذاته، بل بمدى نيّة الدول في إنهاء الحرب والعودة لمقرّرات جنيف والبدء بتنفيذ بند المرحلة الانتقالية.

أعتقد أن الحلّ سيكون متوفرًا وسهلًا، في حال وضوح معالم إستراتيجيّة واشنطن في سورية، سيكون هناك حلٌّ في حال شهدنا اهتمامًا أميركيًّا حقيقيًّا، فغياب ممثّلي واشنطن عن مسارات الحلّ في سوتشي وأستانا كان كفيلًا بفشلها قبل أن تبدأ.

الناشط الثوري والصحفي خليفة الخضر: البحث عن القواسم المشتركة الجامعة لكلّ السوريّين

على إثر تشبيه ليافع سوري حول تدخل الدول في سورية ومناطق توزع نفوذها، تشبيه اليافع كان بما أنّ هذه الدول تلعب مع بعضها وبنا، بتبدّل توزع سيطرة كلّ منها، بكبسة زر تنسحب دولة وتدخل أخرى على منطقة، وبكبسة زر تتدمّر دولة وتتحوّل أرض إلى مخيم! 

بعيدًا عن هذه الأزرار التي تضغطها الدول المتدخلة في الشأن السوري وعدم احتمالية تمسّك دولة منهنّ بأرض ومنطقة معينة دون أخرى، فإن ما وصلنا إليه من كثرة النزوح والتبدل المتكرّر بجهات السيطرة بين الدول، نصل إلى نقطة أنّ الحلّ السياسي في سورية قد يكون من ضمن النظريّات التي يطرحها الباحثون والكتّاب، وقد يكون مفاجئًا بعيدًا عن كلّ السيناريوهات المطروحة، تبدل السيطرة العسكريّة وعدم التمسّك المميت لدولة، وتهديد دولة بالانسحاب الكلّي من سورية، يضعنا أمام إعادة تفكير بما يجمعنا ما بعد انسحاب أو بقاء هذه القوى على أرض سورية،  وإن بقيت وإن سمّاها البعض احتلال والبعض الآخر قوّة داعمة، إلّا أنّ بقاء هذه الدول يحوّل سورية إلى معسكرات اجتماعيّة منعزلة بعيدًا عن صوت الرصاص والمعارك، سنجد هذه الدولة محرّرة والأخرى محتلّة، وكلاهما بكبسة زر، بحسب تعبير اليافع السوري، ينتقل المحتلّ إلى أرض المُحرِّر والعكس، لذلك قطعًا التغيّرات بالسيطرة مفاجئة، وسيكون المجتمع أمام تحدّيات تبعده عن الآخر السوري الذي كان ضمن معسكر الدولة الأخرى، لذلك أن نعمل على إيجاد قواسم مشتركة وثوابت مشتركة مرتبطة بالأرض والبلد وبالهويّة السوريّة الجامعة بين كلّ مكوّنات المجتمع وأطفالهم ويافعيهم الذين كبروا وأصبحوا شبابًا وهم يجهلون الآخر السوري، بسبب خطوط توزع الدول على أرض سورية.

إنّ العمل على البحث عن الثوابت وإعادة إقناع الآخرين بالثوابت السوريّة وإيجاد قنوات تواصل تبدأ بتعاطف الآخر بوجع غيره والاعتراف بجريمة الآخر، والعمل على إيقاف توريث الخطأ من الكبار للأبناء، والاعتذار العادل من الضحايا، والكثير من النقاط التي تسعى لإيجاد عوامل مشتركة وثابتة سوريّة، إن لم تكن من قبل الكبار، ستكون عبر برامج تستهدف اليافعين ومن كبروا في دول الشتات والمخيّمات والمدن والقرى السوريّة، إنّ إيجاد الثوابت المشتركة وتعزيزها وتنميتها وتطويرها سيختصر علينا الكثير من الوقت الذي ستستغرقه في ما بعد بتعريف السوري بالسوري الآخر. 

حتمًا، ستنتهي مصلحة الدول ومهامها وتتفق أو تذهب لتجد من دول أخرى ساحة قتال لها، ويتمّ ضغط الزر، بحسب وصف اليافع، ولا يبقى في سورية إلّا أبناؤها ممن كبروا في السنوات السابقة، ولن ينهض المجتمع السوري ويعالج البلد من آفاته ويدفع الشباب إلى التكاتف في بناء ما تمّ هدمه اجتماعيًا إلّا بالثوابت السوريّة، وإلّا وحتّى وإن انسحبت إحدى الدول، سيطالب مجتمع سوري ما هذه الدولة بالبقاء معه خوفًا من السوري الآخر، وفي هذا الخيار لن يصل السوري إلى حلِّ ينهض به ويحرّره من توغّل الدول بقراراته.

الكاتب والمحلّل السياسي شورش درويش: في الحاجة إلى طبعة جديدة للمعارضة

لم تتوقف المبادرات التي أطلقها معارضون في سبيل رسم إستراتيجيّة جديدة تفضي إلى الخروج من الأزمة السياسيّة المتنامية، من ذلك ما تمّ طرحه من قبل شخصيّات وقوى معارضة، حول وجوب تشكيل “مجلس عسكري” يتولّى حكم البلاد إلى حين تأمين انتقال سياسي، وكذلك الأفكار التي لم تتبلوّر بشكلٍ واضح حول “اللامركزيّة” بأنماطها المختلفة، بيد أن هذه التصوّرات، وسواها، التي يمكن تسميتها خطوطًا إستراتيجيّة تسعى إلى الخروج من الأزمة والانسداد الحاصل تقتصر على الشارع المعارض، ذلك أنّ النظام لا يبدي أيّ اقتراح في هذه السياقات، بالنظر إلى نهجه الرسمي الذي يعتبر الأزمة شكلًا من أشكال المؤامرة، وأنّ لعبة “شراء الوقت” كفيلة بتهدّم رؤى المعارضة وتصوّراتها وبتآكل الكيانات المعارضة، وتؤدي إلى يأس المعارضين أنفسهم، والحال أنّنا بتنا إزاء إستراتيجيّتين للحلّ: الأولى تقتصر على المعارضة وتتمثّل في التفكير خارج صندوق عمليّة التفاوض المتعثّرة وفشل العمليّة السياسيّة؛ والثانية تقتصر على النظام، وهي إستراتيجيّة إبطال كلّ ما يتمّ طرحه من قبل المعارضة، بالتالي لا يمكن البناء على تضادّ الرؤى هذا والحديث عن إستراتيجيّة حلّ بين الطرفين!

 تحكّم القوى الإسلاميّة المعطوفة على دعم دول إقليميّة بالمشهد العامّ للمعارضة، وغياب أيّ شكل من أشكال تأطير العمل المعارض، وتحويل فكرة الإطار المعارض الجامع من إستراتيجيّة عمل وطني إلى تكتيك مرحلي لغايات تفاوضيّة، والخلاص من ظاهرة التشاوف ورفض الآخر الذي تبديه نخب معارضة إزاء بعضها البعض، مرورًا بما يمكن تسميته بربط أغلب كيانات المعارضة بعربة الدول “الداعمة”، وصولًا إلى رفض فكرة طمأنة الجماعات السوريّة القلقة ومعالجة مخاوفها المتّصلة بالتغيير والذي ساهم في تشظّي المعارضة وأفقدها التوازن المطلوب، يدفعنا إلى القول: إنّ أيّ إستراتيجيّة للحلّ تمرّ بترتيب صفوف المعارضة، أو بكلمات أخرى: يستلزم التفكير في حلِّ الأزمة السوريّة حلّ أزمات المعارضة، ونزع المادة الثامنة من دستور البعث “..القائد للدولة والمجتمع”، التي استلفها معارضون من خزانة النظام، من أذهان من يظنون أنّهم يمثّلون “الأغلبيّة”.

ليس هناك مراجعة جادّة، حياديّة ومنهجيّة، للأخطاء التي راكمتها قوى وأطراف معارضة، ابتداءً باستلهام نموذج التغيير الليبي وما استتبعه من رغبة في تدخّل الغرب لإنهاء حكم الأسد، بل إنّ المفارقة تكمن في أنّ كثيرًا من المعوّلين على التدخّل الدولي ما زالوا متمسّكين بحدوث هذا التدخّل وبالصيغة الليبيّة، ما يعكس اتّجاهًا رغبويًّا وعدميًّا لدى فئة معارضة ما زالت تعتقد أنّ حلّ الأزمة تكمن في يد الدول الكبرى والدول الإقليميّة، في حين أنّ المراجعة تقتضي البحث في آليّات وبرامج عمل وطنيّة تقع على عاتق تيّارات المعارضة ومستقلّيها تعبّر عن نفسه بتشكيل إطار ديمقراطي حقيقي يستطيع التوقّف عن التذاكي و”الفهلوة”، ذلك أنّ عبارتي “الغرب تعب من المأساة الإنسانيّة في سورية”، وأنّه سيتدخّل لإنهاء المأساة المتواصلة، وكذا “شمس دمشق تسطع من موسكو”، ما هما إلّا عبارتان تنتميان إلى عالم اللا سياسة الذي طبع عمل المعارضة.

ترهّل وجه الحلّ السياسي الدولي المتمثّل بالقرار الذي حفظه السوريّون عن ظهر قلب 2254، وما عاد بالإمكان التعويل على مجلس الأمن الذي تتكوّن عملته الواحدة من وجهين: روسيا والصين، والولايات المتّحدة وحلفائها، بالتالي فإنّ التعويل على أيّ حلّ دولي يعني استمرار تضييع الوقت، ذلك أنّه ليس بوسع المنظومة الدوليّة هذه تقديم حلّ ملزم في ظلِّ انقسامها الحادّ في الملفّ السوريّ.

وعلى الرغم من الحديث عن استنزاف روسي في سورية، أقلّه في الجانب الاقتصادي وما يستتبعه من مشاعر سلبية لدى صناع القرار في موسكو لمستقبل بقائها في بلد محطّم ومحاصر رفقة نظام منبوذ دوليًّا، فإنّنا لا نملك معطيات واقعية عن إمكانيّة حدوث تبدّل في مواقف موسكو، في حين أنّ الولايات المتّحدة وحلفاءها فقدت كلّ شهيّة في إحداث تغيير حقيقي في سورية، ومردّ الأمر غياب وجود قوى سياسيّة تمثّل التطلّعات الديمقراطيّة، فضلًا عن فقدان الثقة بمسلّحي المعارضة واصطفافاتهم المذهبيّة، لذا يقتصر الدور الأميركي على تعقّب إيران في سورية، ودعم قوّات سوريا الديمقراطيّة (قسد) في مواجهة تنظيم (داعش) الإرهابي، والاستمرار في التضييق على النظام وموسكو عبر سلال العقوبات الاقتصاديّة (ليس آخرها “قانون قيصر”).

خطوة النظام بإجراء “انتخابات” تعكس مقدار اللامبالاة الدوليّة، بالرغم من الشجب غير المؤثّر على هذه الخطوة، كما أنّها تعكس فوات الحلّ السياسي وفق مقرّرات مجلس الأمن، حيث إنّ الانتخابات تعني إنهاء عمل اللجنة الدستوريّة، وتعني في العنوان الأوسع نهاية فكرة الانتقال السياسي، في حين أنّ الانتخابات ستجري لتكريس “الشرعيّة” الدوليّة التي حافظ عليها النظام، سواء في حصره حقّ تمثيل الدولة السوريّة خارجيًّا أو إبرامه للعقود والاتّفاقات مع حلفائه، بكلمات أخرى: هذه الانتخابات هي كلّ ما تحتاج إليه موسكو للمضي في مسار السيطرة على سورية.

تفرض الوقائع على الأرض وفي أروقة السياسة الدوليّة المزيد من التشاؤم في ما خصّ حلّ الأزمة السوريّة، وإذا كان لا بدّ من التفكير خارج الصندوق، وفي داخله أيضًا، فإنّنا قد لا نعثر على “قشّة” أفضل من مسألة توحيد المعارضة الديمقراطيّة، وإنهاء التبعيّات للدول، قد يكون مثل هذا المسلك “الوطني” شديد الالتصاق بفكرة إقناع العالم بوجود: قضيّة سوريّة” تتمحور حول الديمقراطيّة وإمكانيّة البناء عليها دون وصاية. قد يشكّل مثل هذا القبول المتبادل بين أطراف المعارضة فرصة أوّليّة للخروج بإستراتيجيّة عمل مشترك، ودائمًا تحت عنوان: طبعة جديدة للمعارضة، منقّحة ومزيدة.

الناشط الثوري والكاتب عساف العساف: أسئلة ورهان واختراع العجلة من جديد

مدهشة هذه الثورة، مدهشة حدّ النهايات. تبدو كأنّها جرار كبير يحرث طبقات الأرض والناس والأفكار، جماعات وأفراد، وتنتج الأسئلة، وكثير منها دون اكتراث بترف الإجابات.

كلّ شيء معرّض الآن للهواء، الهواء النقي والغبار وأشعة الشمس الحارقة أيضًا، الوطن والبلد، القوميّة والعروبة والقطريّة، كردستان سوريا أو غرب كردستان، العصبيّة والانتماء والمكان والفضاء والجغرافيا والتاريخ كلّها على المحك. العقائد والدين، السنّة والشيعة، الحسين ويزيد، المسيح والمجدلية، المهاجرون والأنصار، الفتوحات وحدّ السيف، وكلّ هذا التاريخ المكتوب والمنحول هو الآن على صفيح ساخن. الأيديولوجيا، اليسار واليمين ووسط الوسط وأكثر من ذلك، معنى السياسة نفسه كلّها خبز يومي في أفواه الجميع، لا أريد أن أقول في برازهم أيضًا. العائلة والقبيلة، الريف والمدينة، الحضر والبدو، الشوام والحلبية، الشوايا والديرون، الأكراد والتركمان والأشوريون، جوّا السور وبرّا السور في دمشق، غربي الساجية وشرقها في موحسن، حلب وريفها الزاحف على تخومها وقلبها التجاري، كلّ هذا معروض على فاترينات النقاش والصراع. آباؤنا وأمهاتنا، شرفنا المفترض وما ضاع منه، صداقاتنا وعلاقاتنا الحميمة، زوجاتنا وأزواجنا، نحن وأبناء عمومتنا والغريب، أسماؤنا وألقابنا، ذكرياتنا وأغانينا، هلوساتنا وأحلامنا وأوهامنا، كلّ شيء كلّ شيء، على مشرحة أقلّ سكين فيها تجرح حتى بلا ملامسة. نبدو كأنّنا في لحظة الخلق الأولى، أو ساعة الدينونة تلك، عراة من كلّ شيء، نحمل أسماءنا فقط، أسماءنا كما تردّدها ملائكة اليقين: “فلان بن فلانة”.

للإجابة على الأسئلة التي يطرحها الملفّ، جرّبت أن أبحث في “اليوتيوب” ومواقع التسوق الإلكتروني عن حلول وإجابات شافية، لكن -مع الأسف- دون جدوى. ما زال متعذرًا حتّى اللحظة شراء هويّة وطنيّة أو عقد اجتماعي أو حلول سياسيّة لقضيّة ما أو حتّى دستور من موقع “أمازون” مثلًا، وهذا مخيّب ومحبط نوعًا ما، ومصدر الإحباط والخيبة أنّك كفرد تسكن في هذه القرية الصغيرة التي تُسمّى العالم، الذي أغلقه تمامًا فيروس صغير وكاد أن يختنق بسفينة واحدة عالقة في السويس، وسواء كنت في نيويورك أو باريس أو طوكيو أو القاهرة أو أصغر قرية في الهند أو إفريقيا، أو في دمشق أو الشمال السوري، فإنّك قادر على الحصول ببساطة على أحدث منتجات التقانة والعولمة وثورة المعلومات في لحظة طرحها في السوق، وستحرص الشركة المنتجة كلّ الحرص على ضمان حصولك على أفضل خدمة وستزودك دوريًّا بالتحديثات اللازمة مع الصيانة أيضًا. لماذا إذن لا يتمّ التعامل مع الحرّيّة والديمقراطيّة والعدالة والتعايش المشترك وحقوق الإنسان بنفس الطريقة؟ هل يجب اكتشاف النار مرّة جديدة واختراع العجلة من جديد ليستطيع الناس أن يعيشوا بسلام وكرامة من دون أن يغرقوا في تفاصيل لا نهائيّة عن مسارات عبثيّة في أستانا وسوتشي وجنيف وغيرها، يفرضها عالم محكوم ببنية سياسيّة قديمة عاجزة عن تقديم حلول خارج منظومة القوّة والتغلّب.

ربّما كان هذا أحد الدروس التي علّمتنا إياها الثورة السوريّة بأعلى كلفة ممكنة من الدم والألم: أنّ الطريق طويلة ووعرة والعوائق والمطبّات كثيرة ومختلفة، وأنّنا بعد عشر سنوات ما زلنا في البدايات، وأنّ كثيرًا من الأوهام قد سقط، فلا نحن مركز العالم ولا سورية هي الوطن الثاني لكلّ إنسان على هذه الأرض أو حتّى الوطن الأوّل لكثير من أهلها، وأنّ الجيوسياسة هي علكة رخيصة بفم المتغلّبين، والأهمّ أنّ الحلّ إذا أراد أن يأتي فسيجد لحظته المناسبة للقدوم، وبانتظاره سيكون مفيدًا جدًا الاسترخاء والعمل على مهل وبتؤدة كبيرة وإتقان دون أوهام المهمّات الكبرى والمنعطفات التاريخيّة لتسريع قدوم هذه اللحظة وترسيخ حضورها أكثر.. كيف؟

ربّما نحن بحاجة إلى (حركة فتح الفلسطينيّة)، (فتح سوريّة) تنطلق على مهل وتأخذ على عاتقها لملمة شظايا الهشيم السوري لتبني سرديّة وطنيّة متماسكة، وفق التمثيل السياسي الحقيقي والطبيعي، من قاعدة الهرم إلى رأسه ولا شيء آخر. الخبر السيئ أنّه يجب علينا البدء من الصفر أو فوقه بقليل. والجيد أنّ لدينا مخزونًا جيدًا من الخسارات وبعض الأغاني.

الناشط الثوري والكاتب محمد جلال: البحث عن الخلاص الفردي خارج الحدود..

“الحلّ” كلمة لا تحمل المعنى نفسه بالنسبة إلى كلّ أصحاب المصلحة في الشأن السوري؛ فالمصالح مختلفة، وهي في كثير من الأحيان متناقضة. الحلّ بالنسبة إلى النظام السوري هو بقاء الأسد في السلطة ومحافظته على المنظومة الأمنيّة التي تكفل سيطرته على السوريّين وتحويلهم إلى نسخ متطابقة تنتجها معامل الرعب الخاصّة به. قد يبدو الوضع الحالي مثاليًّا بالنسبة إلى الروس الذين يتحكّمون في مقدرات البلد وقراره السياسي الخارجي، ولا ينقصه إلّا إعادة تعويم الأسد عربيًّا وإقليميًّا ودوليًّا. الإيرانيّون كذلك يبدون سعيدين جدًا بهذه الفوضى العارمة التي تمكّنهم من جعل سورية قاعدة جديدة لتجنيد المقاتلين، وتقوية دور وكلائهم في المنطقة، ونقل الأموال، وتحويل غالبيّة مساحة سورية إلى محافظة إيرانيّة لا ينازعهم فيها سوى الوجود الروسي الذي كانت الشراكة معه لا بدّ منها لإنقاذ النظام. الأتراك بدورهم لا يرون سورية إلّا بعيون الحرب على (حزب العمال الكردستاني) ومشكلة اللاجئين. لا يرغبون في الأسد على حدودهم، لكن كلّ ذلك يأتي بعد تأمين الحدود من المخاطر التي يشكّلها (العمال الكردستاني) الذي نما بشكلٍ متسارع بعد الحرب على تنظيم الدولة (داعش). أمّا بالنسبة للأميركان فلم نعرف الحلّ النهائي الذي يناسبهم حتّى الآن. محاربة (داعش) هدفهم الرئيسي وتقريبًا الموضوع أصبح في سورية من الماضي، ولم يعد يشكّل التنظيم الخطر الذي كان يمثّله قبل سنوات. بالنسبة إلى موقفهم من النظام، بالرغم من تبدل أكثر من إدارة، كان أقرب إلى الثبات وهو عدم الاعتراف بأيّ حلّ يُبقي الأسد في السلطة، بسبب الجرائم التي قام بارتكابها ولا يمكن تجاهلها، ولكونه جزءًا لا يمكن فصله من المشروع الإيراني. لا يقول لنا الأميركان كيف سيحدث ذلك، فهم تدخلوا عسكريًّا مرتين، بسبب استخدام النظام السلاح الكيمياوي في دوما وفي خان شيخون. وكان تدخلهم هزيلًا عنوانه “العب داخل الخط الأحمر”، ويبدو مشجعًا لنظام الأسد للتمادي أكثر بدلًا من أن يكون محذرًا.

بالنسبة إلى العقوبات الاقتصاديّة التي تبعت “قانون قيصر”، فقد أنهكت السوريّين وقرّبتهم من مجاعة لا يبدو أنّ الأسد يأبه لها. ولا نعرف إلى أيّ مدى يقتنع الأميركان أنّ تلك العقوبات ستجعل الأسد أو الروس يرضخون. بالطبع التدخّل في سورية بالنسبة للأميركان هو مواجهة مباشرة مع الروس تحمل كثيرًا من الحساسيّات، وقد لا يرغبون في مثل هذه المواجهة من أجل وجبة تبدو غير دسمة، ولا سيما أنّهم حصلوا على حصتهم منها، ولكونهم على ثقة أنّ الجميع يعلم ألّا حلّ نهائيًا سيكون بدونهم.

 بقاء الوضع على ما انتهت إليه العمليّة العسكريّة الروسيّة في ريف إدلب وريف حلب، في آذار/ مارس 2020، هو الأقرب في المدى المنظور. ربّما كانت تلك اللحظة التي بدا لكلّ الأطراف أنّ خسائر مزيد من المعارك ستتجاوز أيّ مكاسب منها. تقسّمت سورية فعليًّا، وأغلقت الحدود بشكلٍ شبه محكم بين مناطق السيطرة، بحيث أصبح ذهاب السوري من مدينة حلب إلى إدلب أصعب بكثير من ذهابه إلى بيروت أو بغداد، ونقل البضائع من تركيا إلى شمال حلب أسهل بكثير من نقل أيّ شيء إلى مدن وقرى تبعد كيلومترات عديدة. تخضع كلّ منطقة إلى حكم وقواعد ومناهج دراسيّة مختلفة، وتتعامل كلّ منطقة بعملة تختلف عن الأخرى. قد يتغيّر الوضع الراهن طبعًا، لكنّي أظن أنّ ذلك مرهون بتغيّرات في موازين القوى ذات المصلحة والتي ستنعكس بشكلٍ بديهي على خطوط السيطرة. بالطبع، ليس من الضرورة أن تكون مثل هذه التغيّرات في صالح السوريّين مثلما تعودنا دائمًا. 

أما الحلّ بالنسبة إلى السوريين برحيل الأسد وتحرير المعتقلين وعودة المهجّرين إلى منازلهم وخروج جميع القوّات الأجنبيّة والميليشيات العابرة للحدود وبناء دولة القانون والديموقراطية والمساواة، فهو ليس أكثر من حلم وردي لا فرصة لتحقيقه وفق الظروف الحاليّة، وليس أمام السوريّين إلّا البحث عن الخلاص الفردي، خارج الحدود في الغالب. ليس للسوري اليوم بعد تغوّل القوى الدوليّة والإقليميّة داخل الحدود إلّا لعب دور المتفرج على ما يجري في بلده من دون القدرة على تغيير أيّ شيء، مثل ركاب حافلة تتقلّب من الجبل إلى قلب الوادي. بالطبع ليسوا كأي متفرج ينظر من الخارج، فهم الذين يأكلون السياط، وفقدوا منذ زمن بعيد أيّ اهتمام بعدها. ولهم كذلك أن يتأمّلوا بمتغيّرات دوليّة وإقليميّة قد تدفع لإنجاز بعض الحلول الجزئيّة لمشكلاتهم، بالرغم من أنّ المتناقضات الدوليّة لم تقف بصفهم منذ اندلاع الثورة السوريّة. ولا أعني بهذه المتغيّرات المفاوضات التي تجري في مؤتمرات آستانا التي تبدو مضرة محضة لمصالح السوريّين، يكسب فيها النظام والروس مزيدًا من الوقت بإغراق الجميع بالتفاصيل والعبثيّات، وتلعب المعارضة فيها دور الزوج المحلّل لجرائم النظام، والمانح لشرعيّة يبحث عنها الروس للمساعدة في تعويمه وتقديمه للعالم كحلّ اتّفقت عليه القوى السوريّة المتصارعة. 

الناشط الثوري ياسر المسالمة: هل هناك حلّ سياسي في سورية؟

يفترض المنطق السياسي جلوس المتحاربين إلى طاولة تفاوض، بانتهاء أيّ حرب أو صراع، للوصول إلى صيغة ترسم ملامح مرحلة ما بعد الحرب، سواء كانت نصرًا لأحدهما وهزيمة للآخر، أو صيغة تعايش محفوف بالمخاطر أو محدّد بالضوابط، لكن ما جرى في سورية جعل هذا المنطق بعيدًا لأسباب عدة أوّلها مدى التدخّل الدولي والإقليمي في الملفّ السوري حتّى ضاع دور الفواعل السوريّين نهائيًّا، وثانيها وأكثرها أهمّيّة اختلافات المعسكرين المتحاربين فيما بينهما وعدم إجماعهما داخل كلّ معسكر على رؤية موحدة للحلّ، فمعسكر النظام تائه الولاء ما بين روسيا وإيران وما بين راغبين في الحلّ السياسي ورافضين له وبين صقور وحمائم، بينما طرف الثورة والمعارضة أضاع جميع الفرص التي كانت أمامه للوصول إلى حلّ سياسي، من خلال تسليمه مراكز قوّته باكرًا للداعمين ومن ثمّ للنظام والاحتلال الروسي، فلم تعد قوى الثورة والمعارضة تمثّل شيئًا على طاولة التفاوض سوى هياكل فارغة من أيّ مضمون، وعادة التفاوض أن يكون ما بين الأنداد للحصول على نتائج مرضيّة.

إزاء هذا الوضع، يبدو الأفق ضبابيًّا، في ظلِّ عبثيّة مفاوضات جنيف، وفي ظلِّ الخطيئة السياسيّة المتمثّلة بقبول تشكيل اللجنة الدستوريّة التي وضعت طرفي المعادلة في سورية تحت الإرادة الروسيّة وطوع بنانها، وذلك من خلال الرضوخ الكامل وغير المشروط لما تمّ ويتمّ الاتّفاق عليه في آستانا بين الحلف المتشكّل ضدّ الثورة السوريّة المتكوّن من روسيا وإيران وتركيا.

الحديث عن حلّ سياسي في سورية اليوم يشبه نكتة سمجة يلقيها أحدهم في عزاء، فقوى الثورة والمعارضة اليوم لا تملك من الأمر شيئًا، ويتمّ سوقها دون إرادة إلى مذابح السياسة، حيث قتل تراكم الأخطاء أيّ أمل فيهم “بافتراض أنّها أخطاء وليست شيئًا آخر”.

في مسألة الانتخابات الرئاسيّة في سورية، بالرغم من جهود موسكو وطهران، فإنّ هذه الانتخابات لن تمثّل أكثر من استمرار ورقة تفاوض للروس أنّهم يتدخّلون إلى طرف الجهة الشرعيّة، بينما يعلمون أنّهم غير قادرين على تعويم النظام دون تقديم تنازلات مؤلمة من قبلهم، وعلى الرغم من انتصارهم عسكريًّا فإنّ موسكو تدفع أثمانًا سياسيّة واقتصاديّة لصالح معسكر واشنطن – بروكسل، وهي ترغب في وقف هذا النزيف. في واقع الحال، الحلف الإماراتي – الروسي الناشئ مصلحيًّا يعمل جاهدًا لتحقيق هذه الغاية، فالإمارات الباحثة عن أدوار إقليميّة ودوليّة لا تتناسب مع حجمها وعدد سكانها تريد تعويض خيبتها سياسيًّا في ليبيا، من خلال الظفر بسورية لاستكمال ربحها الاقتصادي والإستراتيجي عبر سيطرتها بعنوان الإدارة على كثير من موانئ المنطقة العربيّة، ومن ثم تحكّمها في مسارات التجارة العالميّة، وفرضها القوي لنفسها عبر بوابة الاقتصاد في أفريقيا والمنطقة، حيث ترى الإمارات في سورية صفقة رابحة لها، إذا ما استطاعت السيطرة عليها، فهي بذلك تمنع وجود الإسلام السياسي، وتحارب آخر مركز قوي له في سورية بعد نجاحها في إضعافه بمصر وليبيا والسودان وغيرها، كما أنّها تكون على مقربة من الحدود التركيّة لإثارة القلاقل هناك، كون تركيا تمثّل منافسًا لها اقتصاديًّا وتحكمها حكومة إسلاميّة، كما أنّ سورية بموقعها ومواردها تشكّل عامل قوّة لأيّ طرف يسيطر عليها.

تبدو الولايات المتّحدة اليوم في موقف المراقب الذي يتحكّم من بعيد، من دون رغبة في تلويث يديه، في هذا الملفّ المعقّد، فبقاء الوضع على ما هو عليه يخدم أهدافًا عدّة لهم، على الأقلّ خلال المدى القصير، لتسهيل عمليّات الانسحاب من أفغانستان والمحافظة على وضع يُرضي تركيا مؤقّتًا في ظلِّ الخلاف الجوهري ما بين إدارة الرئيس جو بايدن والحكومة التركيّة، كذلك توفير مساحة لإسرائيل لضرب بعض الاهداف داخل سورية بين الحين والآخر تخدم ملفّ التفاوض الأميركي مع إيران، وتعزز فكرة “أمن إسرائيل”، وتعزز الصورة النمطيّة لها في أذهان العرب الراغبين في السلام والتطبيع معها بأنّها قوّة قادرة على الضرب أين ومتى تشاء، إلى فوائد أخرى كثيرة.

السؤال هنا: ماذا نستطيع أن نفعل؟ في الواقع، حلّ هذه القضيّة مثله كحلّ أيّ مشكلة، الواجب أوّلًا الاعتراف بوجودها، وهو أمر غير موجود لدى قوى المعارضة، ومن ثمّ تحليلها ومعرفة أسبابها ووضع اليد على الجرح تمامًا لمعرفة مواطن الخلل، ومن ثمّ تحقيق تحالف المصلحة الراغب في حلِّ هذه المشكلة، يتبعه وضع خطط الحلّ انتهاءً بأعمال الحلّ، لكن في ظلِّ عدم إمكانيّة تحقيق هذا في حالتنا السوريّة الثوريّة والمعارضة، يبدو أنّ عمليّة توسيع قاعدة صنع القرار هي الأنسب عبر تشكيل كيانات سياسيّة فاعلة حقًا تمارس أدوار الرقابة الصارمة والمحاسبة عند اللزوم، تضغط بشكلٍ جماعي لتحقيق أهداف مرحليّة تستطيع مع الوقت إعادة الأمور إلى نصابها.

لا توجد حلول سحرّيّة قادرة على اجتراح المعجزات، ولذلك نحن بحاجة إلى جهود منظّمة وتعاونيّة وعلى مدى متوسط وبعيد، وفي أكثر من مكان وتحت أكثر من عنوان، وهو عمل ضخم يحتاج إلى نيّات وخطط وتنظيم وإدارة وتنظير كثير، وفي الحقيقة هذه هي تمامًا نقاط ضعفنا الحقيقيّة التي يجب العمل عليها، إذا ما أردنا الوصول إلى حلول.

الصحفي عمار حمو: استعصاء الحلّ السياسي

من خطوط الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما الحمراء، إبان مجزرة كيمياوي الغوطة التي ارتكبها نظام الأسد في آب/ أغسطس 2013، وراح ضحيتها 1127 مدنيًّا، بينهم 107 أطفال و201 امرأة، بحسب أرقام صادرة عن الشبكة السوريّة لحقوق الإنسان، حتّى تصويت الدول الأعضاء في منظّمة حظر الأسلحة الكيميائيّة، في 21 نيسان/ أبريل الماضي على تجريد سورية من حقوقها بالمنظّمة الدوليّة، منها حقّ التصويت والترشّح، يتساءل السوريّون عن جدوى تحرك المجتمع الدولي ضدّ نظام بشار الأسد! فلا خطوط أوباما الحمراء أوقفت المجازر بحقّ السوريّين طوال السنوات السبع التي أعقبت المجزرة، ولا نعتُ الرئيس الأميركي جو بايدن لنظيره الروسي فلاديمير بوتين أنّه “قاتل”، محذرًا إياه من أنّه “سيدفع الثمن”، غيّرت مسار السياسة الأميركيّة، على وجه الخصوص، تجاه سورية.

واليوم صار تساؤل السوريّين عن “جدوى التحرك” أكثر إلحاحًا مع إجراء الانتخابات الرئاسيّة هذه الأيّام، أكثر إلحاحًا، خصوصًا أنّ الموقف الدولي ليس أكثر من تصريحات لا تُنذر بتحرك قد يمنع ما يصفه السوريّون “مهزلة الانتخابات”، في وقت بات نصف الشعب السوري نازحًا أو لاجئًا. في المقابل، نجحت موسكو في خطف المسار السياسي الذي رسمه مجلس الأمن كخارطة طريق للسلام في سورية، بموجب القرار 2254، الذي يدعو إلى إجراء عمليّة سياسيّة بقيادة سوريّة، تبدأ بتأسيس هيئة حكم انتقالية، تليها صياغة دستور جديد، وتنتهي بانتخابات تحت إشراف الأمم المتّحدة.

استبدلت موسكو توصيات القرار 2254 بمباحثات آستانا، حيث أعلنت الدول الضامنة لآستانا: روسيا وتركيا وإيران، في كانون الأوّل/ ديسمبر 2016، التوصّل إلى مبادئ تسوية سياسيّة للصراع في سورية، انتهت بالإعلان عن تشكيل لجنة دستوريّة مهمّتها صوغ دستور جديد للبلاد، لكن شخصيّات سوريّة معارضة شكّكت في أداء هذه اللجنة التي لم تخرج بنتائج حتّى اليوم، معتبرة أنّها ذريعة لتمرير أجندات عسكريّة على أرض الواقع.

اليوم، نشهد إجراء الانتخابات الرئاسيّة، وهي “ليست جزءًا من العمليّة السياسيّة التي ينص عليها القرار 2254″، كما عبّر المتحدث باسم الأمين العامّ للأمم المتّحدة، ستيفان دوجاريك، خلال مؤتمر صحفي عقد في 21 نيسان/ أبريل الماضي، ولن تنخرط الأمم المتّحدة في الانتخابات، لكن الانتخابات ستجري في موعدها، وسيتعامل معها المجتمع الدولي على أنّها أمرٌ واقع!

أميركا، من جهتها، لن تعترف بالانتخابات الرئاسيّة، كما صرّح نائب المندوب الأميركي لدى الأمم المتّحدة بالإنابة، جيفري ديلورنتس، مشيرًا إلى أنّ إدارة بايدن لن تعترف بالانتخابات في سورية، إذا لم يتمّ التصويت تحت إشراف الأمم المتّحدة. أميركا بايدن اليوم لا يبدو أنّها ستتدخّل في وجه دمشق، ما لم تتأثّر مصالحها وقوّاتها في شمال شرق سورية.

ما الحلّ للأزمة السوريّة؟ بعد مرور عشر سنوات على اندلاع الثورة السوريّة، صار الملفّ السوري عبئًا على أصدقاء الشعب السوريّ، وحلفاء نظام الأسد أيضًا، ما من شأنه أن يدفع بالأطراف الدوليّة والإقليميّة إلى التوصّل إلى تفاهمات تُرسم، يشير إلى إمكانيّة التوصّل إلى تفاهمات دوليّة وإقليميّة من شأنها التوصّل إلى حلّ سياسي في سورية على مقاس تلك الدول، وبما لا يتناسب مع مصالح الأطراف السوريّة موالاة ومعارضة، ساسة وعسكر.

لذلك، فإنّ الوصول إلى حلّ للأزمة السوريّة يمرّ عبر بوابة المعارضة السياسيّة السوريّة، ويتمثّل في التصالح مع الحاضنة الشعبيّة التي أصبحت أبعد ما يكون عن تمثيلها من جهة، والعمل على حراك سياسي دولي يدفع باتّجاه الضغط للعودة إلى المسار السياسي تحت مظلّة مجلس الأمن بتطبيق القرار 2254. لكن أيّ عمل سياسي يحقّق تطلّعات السوريّين يحتاج إلى مباحثات سوريّة معارضة – معارضة، للخروج بجسم سياسي يمثّل أطياف الشعب السوري وتيّاراته السياسيّة والقوميّة والدينيّة، من دون إقصاء أو تمييز. كذلك ضخ دماء جديدة في مؤسّسات المعارضة السوريّة من شأنه أن يعيد الثقة بين تلك المؤسّسات والمجتمع الدولي الذي بات يرى تلك الكيانات بشخوصها أحد أسباب عدم الوصول إلى حلّ سياسي في سورية.

بموازاة ذلك، يتعين دعم المسار الحقوقي الذي بدأ يثمر في أوروبا من خلال البدء بمحاكمة مرتكبي جرائم الحرب في سورية، وبتضافر الجهود السياسيّة والحقوقيّة، يمكن الضغط على المجتمع الدولي من أجل تحقيق “العدالة الانتقالية” لسورية والسوريّين، ومن ثم تحقيق العدالة السياسيّة في سورية.

الكاتب  والمحلل السياسي مشعل العدوي: عدم تمسّك المعارضة بالقرار 2254 تفريط مُتعمّد بحقوق السوريّين

باعتقادي، لا يوجد خيار واقعي للحلّ في سورية خارج أطر القرار الأممي 2254، وحين نتحدث عن هذا القرار، نعني تفاصيل نصّ القرار الأصلي وتسلسل مراحل تنفيذه، قبل أن تأتي سلسلة اجتماعات آستانا وبعدها سوتشي كمحاولة من طرف روسيا لإفراغ هذا القرار من مضمونه، حيث فسّرت روسيا القرار بطريقة أفرغته من مضمونه، وسعت إلى إنهاء الحراك المسلّح ضدّ نظام الأسد، وحاولت إغراء بعض أطراف المعارضة أو شبه المعارضة للقبول بمشاركة النظام السوري بما تسمّيه موسكو “حكومة وحدة وطنيّة”، مقابل أن يحصلوا على بعض المقاعد غير أساسيّة في الحكومة، وغير مؤثّرة في الجيش والأمن والسياسة الخارجيّة.

من هذا المنطلق، نجد أنّ مجرد قبول المعارضة الدخول في نفق لجنة التفاوض على الدستور، وعدم إصرارها على تحديد إطار زمني لوضع الدستور، هو تجاوب مع المحاولة الروسيّة لإغراق القضيّة السوريّة في الوحل، وإجبار المجتمع الدولي على القبول بتعويم الأسد من جديد، تحت ذريعة أنّ السوريّين لم يتفقوا على دستور جديد أو نظام حكم بديل، علمًا بأنّ روسيا ذاتها هي من تعطّل اللجنة الدستوريّة وتمنع استمرار عملها من خلال الإيعاز لوفد السلطة بالمماطلة.

يمكن أن يأتي الحلّ السياسي اليوم من خلال تخلّي المعارضة السوريّة كلّيًّا عن مسار المفاوضات في اللجنة الدستوريّة، والطلب من الميسر الدولي غير بيدرسون العودة للالتزام بنصّ القرار الأممي، وخاصّة الفقرة الأولى، التي تشير إلى ضرورة فكّ حصار المدن، ثمّ فقرة إطلاق سراح جميع المعتقلين على خلفية المشاركة بالثورة دون قيد أو شرط، ليتمّ الانتقال بعدها إلى تشكيل هيئة حكم انتقالي، وهذا يعني تلقائيًّا تعليق المواد الناظمة لرئاسة الجمهوريّة وصلاحيّات الرئيس، والتي يجب أن تنتقل إلى هيئة الحكم الانتقالي، التي بدورها تُشكّل لجنة خاصّة لكتابة الدستور، ولجنة عسكريّة لضبط السلاح وإعادة هيكلة الجيش، ومن ثمّ الإشراف على انتخابات برلمانيّة ورئاسيّة بناء على الدستور الجديد، بعد أن تكون قد أنجزته وعرضته على الاستفتاء العامّ.

على المعارضة السوريّة الاستفادة من قرار الولايات المتّحدة الانسحاب من مسار آستانا، بصفتها عضوًا مراقبًا، وفق تصريح سفيرها في كازاخستان، الذي أكّد أنّ مسار جنيف هو الوحيد الذي يصلح لحلّ القضيّة السوريّة، وهذا موقف يمكن للمعارضة السوريّة أن تُعوِّل عليه، وتبني إستراتيجيّة جديدة للتعامل مع النظام من خلال تمسّكها بنص القرار الأممي دون غيره، بصفته القرار الوحيد الذي يضمن حقوق السوريّين، ولو كان بالحدّ الأدنى المقبول، وأرى أنّ عدم اتّخاذ المعارضة هذه الخطوة هو تفريط مُتعمّد بحقوق السوريّين عن سبق إصرار.

الكاتب والمحلّل السياسي أحمد مظهر سعدو: المسألة السوريّة والعثار الكبير  

باتت المسألة السوريّة، بعد عشر سنوات خلت من الدمار والقتل واللعب بها من قبل الكثيرين، تعيش حالة من الفوات غير المسبوقة في تاريخ الثورات العربيّة والعالميّة، ويبدو أنّ السبب لا يعود فقط إلى حالة الخذلان الكبرى التي تعرّضت لها قضيّة الشعب السوريّ، ولا إلى حجم  التدخّلات الخارجيّة الإقليميّة والدوليّة، ولا إلى طول عمر الفترة الزمنيّة، بل يبدو أنّ الاشتغال بالوضع السوري إقليميًّا ودوليًّا، وفق مصالح تلك الدول، هو بحدِّ ذاته حالة طبيعيّة، إذ لا يمكن أن يكون أيّ طرف دولي قد وضع إمكاناته وقدراته في أوضاع سورية أو سواها دون أن يخدم بذلك مصلحته ومصلحة بلاده، وهذه إشكاليّة طبيعيّة بين الدول، وفي السياسات الخارجيّة للبلدان، فلا أحد يعمل من أجل الآخر، بل المصلحة الوطنيّة هي الأهمّ والأساس، وهي المؤشر الذي بنى عليه سياساته الوطنيّة.

لكن المعضلة الأساس في الواقع السوري تكمن في معارضته على اختلافها، من سياسيّة أو عسكريّة، شمالًا وجنوبًا، شرقًا وغربًا، وحتّى شمال شرق، هذه المعارضة لم تدرك بعد أنّه لا يجوز مطلقًا وضع البيض كلّه في سلّة الخارج، ولا يجوز (في العمل الوطني السياسي) الارتماء كلّيّة بأحضان الخارج، مهما كان هذا الآخر صادقًا ومواكبًا لهموم السوريّين، ولم يعد بالإمكان، بعد كلّ هذه السنوات، أن تبقى المصالح الشخصيّة لكثيرين من أطياف المعارضة هي الدافع والرائز لتحركاتها، وأن يكون الوطن وما آل إليه وضعه آخر همومها، علاوة على أنّ الاستمرار في حالات التشظّي والتفتّت، وعدم القدرة على بناء حالة تنظيميّة قويّة ومتماسكة، ولن نقول متجانسة حتّى لا نسير مع هوى تجانس بشار الأسد وتوابعه. لكن من أولى أولويّات العمل الوطني أن يلتقي الناس بمعارضتهم كلّها، على مشتركات وبرنامج عمل، ولا نقول اندماجًا، بل الوصول إلى محدّدات أوّليّة يمكن البناء عليها والمراكمة، فأوضاع المعارضة اليوم أشبه بما قال عنه يومًا ياسين الحافظ إنّ “الرميل الذي لا قعر له لا يراكم شيئًا”، وحال المعارضة اليوم بكلِّ تلاوينها هي كذلك، وتكرر الأخطاء بين الفينة والأخرى، ولا تبني جسمًا وطنيًّا يجعل الخارج أكثر احترامًا لها، وأكثر دعمًا سياسيًّا، في المحافل الدوليّة، وهو ما لم تراه  المعارضة السوريّة بعد، ولم يلامس معطياتها اليوميّة، التي ما برحت منشغلة بمسائل صغيرة وكيانات عفا عليها الزمن، وعلاها الصدأ.

ولعلّ اشتغال الروس اليوم بجدّيّة وحركيّة، لإعادة تعويم النظام ورأس النظام وإجراء الانتخابات الرئاسيّة على قد ومقاس هذا النظام/ العصابة، القاتل لشعبه والمُهجِّر لأكثر من نصف الشعب، إنّما يعبر عن أنّ هناك حالة من التخلّي المعولمة أصبحت ناجزة، وأنّ الروس وحدهم حاليًّا من يمسك بالمسألة السوريّة، ويلعب بها كما يريد، أمّا صمت العالم غير المعقول، وفي جوّ دولي يشير إلى أنّ التفاهمات القادمة بين الروس والأميركان بعد مجيء الإدارة الجديدة قد تكون ليست أفضل حالًا ممّا سبقها، من تفاهمات أميركيّة روسيّة سواء أيّام أوباما، أو في عهد ترامب، فالكلّ يبحث عن مصالحه، إلّا المعارضة السوريّة المنشغلة كلّيّة بأمور أخرى، لا يبدو أنّها ستؤتي أُكلًا عبرها.

والأميركان اليوم مهتمّون ومنشغلون بالاتّفاق النووي مع الإيرانيّين، ومن الوارد أن يترك ذلك الأثر المباشر أو غير المباشر على الحالة السوريّة، سلبًا أم إيجابًا، ولا تمظهر للموضوع الإيجابي في ذلك حتّى الآن. بل إنّ الصراع الغربي الروسي حول أوكرانيا سيترك آثاره هو الآخر على جلّ المسألة السوريّة، وفق مصالح الأميركان والأوروبيّين ودول الإقليم. والحقيقة أنّ المعارضة السوريّة الآن وأكثر من أيّ وقت مضى مدعوة إلى التمسّك بوصايا الراحل ميشيل كيلو العشرة، وخاصّة ما يتعلّق بوحدة السوريّين، والتمسّك بالحرّيّة منارًا ومسارًا دون أيّ تنازل عن ذلك. فهل ستعي هذه المعارضة السوريّة ما دعاها إليه ميشيل كيلو قبل رحيله المؤلم، أم أنّها ستبقى تصارع الموت وتبقي على التشظّي دون القدرة على الإنجاز؟

مركز حرمون

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى